صحّت نسبة العبارة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أم لم تصح، فهي من أعمق ما دوّنته الآثار في الحكمة السياسية: "كما تكونوا يُولى عليكم". ربما يقول لك البعض: الناس هم الناس، فيما السيسي ليس مرسي ومرسي ليس مبارك، ومثلهم في التاريخ الإسلامي والإنساني الكثير، إلا أن العبارة في تصوري أكثر عمقاً، وسواء صدرت عن الحكمة النبوية، أو هي من آثار التأمل في أحوال ومقامات الناس وحكامهم، فهي تعبير عن التناسب الطردي، بالضرورة، بين قناعات المجتمع، وقوته وبين مجمل سياسات الحاكم.
في المسألة الخاشقجية، أتصور أن القليل من التأمل يكشف لك عن طبيعة مجتمعاتنا، ومن ثم طبيعة حكامنا، وتجد إجابة غير مريحة، لكنها حقيقية: لماذا يحكمنا أمثال بشار والسيسي ومحمد بن سلمان؟ ببساطة: لأننا، في المجمل، نشبههم!
ماذا لو حدثت الجريمة نفسها بنفس الطريقة في سفارة السعودية في واشنطن؟ هل كان سلوك واشنطن سيكون مثل سلوكها المتباطئ والمساوم والمتردد الآن؟ ربما يجيب ذلك على سؤال آخر هو: لماذا لم تفعلها السعودية في سفارتها بواشنطن، حيث كان يقيم خاشقجي بشكل دائم، واحتاجت إلى تصدير الجريمة إلى تركيا؟ الفارق في الحالتين ليست أخلاق ترمب وإدارته بالتأكيد، إنما ما يستطيعون فعله مع الأتراك ولا يستطيعونه مع مواطنيهم، ولذلك حين أراد ترمب التنصل من مسؤوليته أمام الرأي العام في بلاده، تساءل في سذاجة مقصودة: هل خاشقجي مواطن أميركي؟
تعال معي إلى الاجتماع.. السوشيال ميديا، وخاشقجي.. العالم كله يتحدث عن صحافي تم استدراجه إلى قنصلية بلاده لإجراء معاملة مدنية بسيطة ثم اختفى.. دخل ولم يخرج. وأخيراً اعترف ترمب و4 من دول اليورو بأنه بالفعل ميّت، فيما كنا نخمّن ذلك وبعضنا يستيقنه قبلهم، فكيف تناولنا نحن العالمين ببواطن الأمور قضية خاشقجي؟
السعوديون، المنحازون للدولة ومعهم شيوخ الدولة (الإسلام سابقاً)، رأوا أن اتهام السعودية مؤامرة كونية يقف خلفها الأميركان (حلفاؤهم!) والقطريون بطبيعة الحال، وبالمرة: إيران والشيعة، وجمعيات أصدقاء الكفار في كل مكان. وقال أحدهم وقلبه مطمئن بالإيمان: إن السعودية محسودة!
في مصر تم نشر صور خاشقجي مع بن لادن، دون الإشارة إلى أن خاشقجي ذهب وقتها للتغطية الصحافية بعلم الدولة السعودية وبالتنسيق مع أحد أجهزتها. مجرد نشر الصورة بهذا الشكل قد يُوحي بأنه إرهابي، فلِمَ لا نقتله؟ ثمة دليل آخر على كونه إرهابياً، وهو أنه يكتب في الواشنطن بوست.. وهذه جريدة الإرهابيين في السعودية، والجواسيس في مصر، كما هو معلوم من الدين والوطنية بالضرورة!
الكثير من حسابات نشطاء ليبراليين تساءلت، في غير براءة، عن علاقة خاشقجي بالإخوان، بل قالوا صراحة إن خاشقجي إخوان، ولم يكن منحازاً لأفكار الدولة المدنية (بتاعتنا)، وبالتالي فهو لا يستحق الدعم، وفي الغالب "هيخش النار"؟
الكثيرون اتهموه بأنه ليس معارضاً أصلاً، فلم يكن الرجل يصرخ، ولا يخرج على الشاشات بمقدمات نارية يسبُّ فيها آل سعود، أو مؤخرات ملتهبة يصدرها لمن يقدرها، بل كان مؤيداً لهم؛ بدليل اتفاقه مع بعض سياساتهم ووصفه لهم بـ"أولياء الأمور". وهي كما ترى أسباب وجيهة لانتهاك حقوقه كمواطن وبني آدم وقتله داخل سفارة بلاده!
المسخرة وصلت إلى حد قصّ تغريدة لخاشقجي يتكلم فيها عن داعش؛ ويشير إلى تعمّدهم قطع الرؤوس أمام الشاشات بهذه الطريقة لبث الرعب في قلوب الناس، وأنهم يعلمون ما يفعلون جيداً، ليسجل بذلك تأييده لقتل خاشقجي بحجة أنه يؤيد داعش. يشرح خاشقجي بوضوح سبب قطع الرؤوس بهذه الطريقة الإجرامية؛ دون أن يكتب سطراً واحداً في تأييده أو تبريره، لكن أصحاب الثقافة التي نجحت في تحويل وحي إلهي يحث على نصرة المستضعفين إلى تخريجات شرعية لمساندة الطغاة لن يصعب عليهم تحريف كلام غلبان مثل خاشقجي، وكله بثوابه!
المصريون على السوشيال ميديا أبوا إلا أن يكونوا أصحاب الريادة كعادتهم، وحطوا (التاتش بتاعهم) تغريدة لجمال -رحمه الله- يقول فيها إن تيران وصنافير سعودية، تتحول إلى سبب وجيه لقتله وتقطيعه حتت، فقد مات لأنه لم يقف معنا ضد مصالح بلاده، كما يراها، وبالتالي فهو يستحق القتل لأنه كسعودي لم يكن مصرياً كما ينبغي. ناهيك عن مبررات السيساوية والأسديين والبن سلمانيين، فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج، لكنهم شريحة لا يستهان بها، وجزء أصيل من ثقافتنا الدينية والسياسية.
تعال نتوقف قليلاً عند ثوار الربيع العربي، كيف رأوا قضية خاشقجي؟
من الطبيعي أن ينحاز أبناء الربيع لكاتب صحافي انحاز بدوره للربيع العربي منذ اللحظة الأولى ورأى فيه حلماً وأملاً واختلف مع سياسة بلاده، التي لم يكن معارضاً شرساً لها، من أجله، وتجرّع مراراته وهزائمه، لكنه لم يفقد الأمل في إمكانية تجدده، وامتداد بعض آثاره الإيجابية إلى حياة الناس في منطقتنا المنكوبة بحكامها، ودفع الثمن، فكيف كان شكل الانحياز لقضية خاشقجي:
على المستوى الأخلاقي لا يمكننا إدانة أصحاب الربيع، فقد كانوا منذ البداية، في أغلبهم، مع الرجل، لكن علينا ألا ننسى أن جزءاً كبيراً من أصحاب الآراء السابقة هم بالفعل من أبناء الربيع العربي، وأنهم لم يتورّعوا عن مهاجمته للأسباب السالفة ولم تزل دماؤه تنزف، بدلاً من الانتصار لحقه المبدئي؛ قبل أي اعتبارات أخرى وبعدها.
على المستوى السياسي، الذي يتجاوز مجرد تسجيل الموقف إلى الفعل السياسي الحقيقي باتجاه التصعيد للنيل من قاتليه، وما بعد الوقفات والبوسترات واللقطات التلفزيونية، فلم يكن أغلب المعبرين عن موقف الثورات العربية، طيّب الله ثراها، سوى "فرصة" للأنظمة التي تلاعبت بقضية الرجل ودمائه طلباً لثمن يليق بالسكوت أو التمرير أو توقيع أخف عقوبة، "فرصة" لتسخيف القضية، وتتويه الرأي العام، وشغله بفرعيات، وحواشي، وأسئلة خاطئة كثيرة، وبدونا في أغلبنا، كما نبدو دائماً، وكما يقول المثل المصري فينا: "كلمة تودّيه وكلمة تجيبه".. قتلوه، نعم قتلوه، نشروه، نعم بالمنشار، قطعوا أصابعه وأوصاله أيضاً، وعلى أنغام الموسيقى، ما حكم القتل؟ بل ما حكم الموسيقى؟ أذابوا جسده بسم السيانيد.. السفارة مخترقة من الأتراك، والداخلية التركية لديها التسجيلات.. تركيا لا تتجسس، تركيا حلوة، التسجيلات مصدرها ساعة آبل.. آلاف التخرّصات التي لا تستند إلى دليل واحد متماسك، يمكننا أن نحترم أنفسنا حين نردده ومن ثم يحترمنا خصومنا، أو يخشون تأثيرنا.
أحاول أن أضع قدمي في حذاء حاكم عربي، أو رأسه، فلا فارق تقريباً، أجدني أسخر من هؤلاء الذين لا يعرفون أي شيء، فيما يخبرون العالم بكل شيء، وبأي شيء، وبالشيء وضده. ما أسهلهم من صيد وما أهونهم من خصوم؟
كل ما أتمناه لدماء خاشقجي الزكية أن تكون سبباً في الانتصار لجزء من أفكاره، وعقوبة لبعض قاتليه. فالأمل في أن يعاقبوا جميعاً كالأمل في أن تمطر السماء ذهباً وفضة، لكنني أقول كما جاء في الحكمة العربية: "كما تكونوا يولى عليكم"، فلو لم نكن بكل هذا العبط ما تمتع حكامنا بكل هذا الاستعباط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.