يمكن النظر إلى إطلاق السلطات التركية سراح القس أندرو برونسون، وتمكينه مع العودة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بوصفها خطوة في اتجاه تطبيع العلاقات التركية الأميركية، بما قد يمهد لإنهاء مرحلة غير مسبوقة من التوتر والتصدع الذي اعترى العلاقات بين البلدين الحليفين تاريخياً.
غير أن إطلاق سراح برونسون أطلق العنان لحديث الصفقات، إذ سبق وتحدثت تقارير إعلامية أميركية عن صفقة، نوقشت وتمّت خلال اللقاء الذي جرى بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، على هامش أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، أخيرا في نيويورك، وتقضي بالإفراج عن برونسون مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية على تركيا، لكن الرئيس ترامب نفى عقد أي صفقة مع نظيره التركي.
في المقابل، تحدثت أوساط إعلامية وسياسية تركية عن صفقة، تقوم على إطلاق سراح برونسون في مقابل تنفيذ اتفاق منبج، أي شرق الفرات مقابل برونسون، رابطة ما بين تصريحات الرئيس أردوغان بشأن اتفاق منبج ما بين الطرفين التركي والأميركي، وبين توقيت إطلاق سراح برونسون، إذ اعتبر أردوغان، عشية إطلاق سراح برونسون، أن "إتفاق منبج أُجّل، لكنه لم يمت"، وطالب الولايات المتحدة بتنفيذ بنود الاتفاق، الذي وقع في أنقرة، في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي، ما بين وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ونظيره التركي، مولود جاويش أوغلو.
وإذا كان بعض الساسة الأتراك قد بالغ في توقع الخطوة المقابلة التي قد تتخذها الولايات المتحدة حيال الخطوة التركية، مثلما توقع زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، بأن تقوم الإدارة الأميركية بخطوة مقابلة، عبر إطلاق سراح المصرفي، محمد هاكان أتيلا، الذي كان يتولى منصب نائب المدير العام لبنك هلق التركي، وحكم عليه بالسجن 32 شهراً، بتهمة غسل أموال إيرانية، حيث سبق أن رفضت الإدارة الأميركية هذه الصفقة.
وتترقب الأوساط التركية الخطوة التي يمكن أن تتخذها السلطات الأميركية حيال إطلاق سراح القس الأميركي، أندرو برونسون، حيث تتوقع أن ترفع الإدارة الأميركية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على كل من وزير العدل التركي، عبد الحميد غول، ووزير الداخلية، سليمان صويلو، بسبب احتجاز القس برونسون، إضافة إلى إلغاء قرارها مضاعفة الرسوم الجمركية التي فرضتها على وردات الصلب والألمنيوم من تركيا، الأمر الذي قد ينعكس إيجاباً على الاقتصاد والليرة التركيين.
لم يخف الرئيس ترامب تباهيه وسعادته أمام أنصاره لإطلاق سراح برونسون، لأن ذلك يرضي ناخبيه من المتشدّدين الإنجيليين، بما يعني كسب أصواتهم في الانتخابات النصفية المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني، لذلك شكر الرئيس أردوغان، واعتبر على "تويتر" أن هذه الخطوة ستؤدي إلى "علاقات جيدة، وحتى ممتازة، بين الولايات المتحدة وتركيا"، الأمر الذي يطرح التساؤل عما إذا كان إطلاق سراح برونسون سينهي التأزم والتوتر الذي اعترى العلاقات التركية الأميركية، وعما إذا من الممكن إزالة نقاط الخلاف الكثيرة بين البلدين حيال قضايا إقليمية ودولية عديدة، والتي لم تكن مسألة سجن القس برونسون أهمها، بل تمتد إلى اعتراضات أميركية على ممارسات نظام الحكم في تركيا، وتطاول كيفية تعامل الولايات المتحدة من القضية السورية، على خلفية حصر واشنطن أولوياتها في دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، الذي تعتبره تركيا الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغضّ نظر الساسة الأميركيين عن ممارسات النظام السوري الذي كانت أنقرة تعتبره أصل القضية السورية.
ولعل الأهم هو ما اعتبرته أنقرة تخلي الولايات المتحدة ودول الغرب عنها، حين توترت علاقاتها مع روسيا، بعد إسقاطها إحدى مقاتلاتها في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2015، ثم رفع الموقف الأميركي الملتبس من المحاولة الانقلابية الفاشلة، من حدّة توتر العلاقات بين البلدين، إضافة إلى رفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن الذي يعيش في بنسلفانيا الأميركية.
وإن كان من المتوقع رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية التي اتخذت على خلفية قضية احتجاز القس برونسون، إلا أن رأب الصدع الذي أصاب العلاقات الأميركية التركية يحتاج جهودًا كبيرة، تطاول إصلاح خط سير العلاقات الأميركية التركية المتعرّج، حيال قضايا منطقة الشرق الأوسط، كونها العامل الأساس، والمساهم الأبرز في توترها وتصدّعها، بدءاً من الموقف من القضية السورية، ومروراً بالعلاقات بين تركيا وإسرائيل، ووصولاً إلى علاقات تركيا مع نظام الملالي الإيراني، خصوصا في الجانب الاقتصادي، إضافة إلى علاقات تركيا مع روسيا الاتحادية، وما نتج عنها من تفاهماتٍ سياسيةٍ بين الثلاثي، الروسي والملالي الإيراني والتركي حيال الملف السوري، وبالتالي ليس متوقعا أن تزيل صفقة برونسون ركام الخلافات بين أنقرة وواشنطن حول ملفات المنطقة، خصوصا أن الساسة الأتراك لن يحيدوا على مواصلة العلاقات مع نظام الملالي الإيراني، وفي جانبها الاقتصادي، إذ يرفض الساسة الأتراك قطع علاقات بلادهم التجارية مع إيران، ويرفضون كذلك وقف استيراد النفط والغاز منها، لأن ذلك يخصّ أمن الطاقة التركي، بوصفها دولة غير منتجة لمصادر الطاقة.
ولا شك في أن الوصول إلى علاقات جيدة، بل وممتازة حسبما غرّد ترامب، يتطلب القيام بخطوات عملية، لعل أهمها وقف مشروع القانون الذي وافقت عليه لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، ويقضي بتقييد حصول تركيا على قروضٍ من المؤسسات الدولية. كما أن من المنتظر تشديد العقوبات الأميركية على طهران، وتطبيق الحزمة الثانية منها في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وبالتالي ماذا ستفعل الإدارة الأميركية إذا واصل الساسة الأتراك إصرارهم على عدم الرضوخ للعقوبات الأميركية على نظام الملالي الإيراني؟
ولعل الأهم هو ما الموقف الذي سيتخذه ترامب حيال مشروع قانون أقرّه مجلس الشيوخ، يقضي بإلغاء بيع تركيا طائرات مقاتلة من طراز "إف 35″، إذا مضت في صفقة منظومة أس 400 الصاروخية من روسيا التي تم التوقيع على عقد شرائها في 12 سبتمبر/ أيلول 2017؟
والحاصل أن إطلاق سراح برونسون خطوة في اتجاه نزع أحد أسباب التأزم في العلاقات الأميركية التركية، إلا أن عودتها إلى ما قبل مرحلة من التصدّع تتطلب جهوداً كبيرة، خصوصا في أجواء من العداء الشعبي التركي حيال سياسات الولايات المتحدة، وبالتالي لن تفضي أي صفقة كانت إلى تصحيح مسار من خلافات تراكمت خلال سنوات عديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.