في عالم الصحافة اليوم الأرقام هي التي تتحدث، وقضية الإعلامي السعودي
البارز جمال خاشقجي منذ بدايتها وحتى الآن هي الموضوع الأكثر جذباً للقراء، وبات من المؤلم أن يجري التعامل مع قصّته كمصدر هام لنجاح المواقع الإلكترونية، فمثلاً بات الصحافي ينشر مادة تتحدث عن طريقة مقتل خاشقجي، طلباً للزيارات ونجاح المادة، وبالتالي نجاحه في عمله، ولم يعد هدفه كشف الحقيقة، الوقوف مع الحق، أو أياً مما يدور في فلك "شرف المهنة"، لم تعد العناوين تبنى على الأسس الإنسانية العادلة وإنما على أسس إثارة الجدل وجذب القارئ للدخول.
من واقع العمل على تغطية قضيّة الإعلامي خاشقجي وما حلّ به أشعر بحرقة وألم كبير على الفكر الإنساني وتعاطفه مع القضايا العادلة، وكيف يتحول بعض التعاطف المشروع إلى مصالح بعد تحقيق بعض المكاسب، فيصبح همّنا الشاغل زيادة تلك المكاسب على حساب قضية إنسانية عادلة، دخلناها مؤمنين بعدالتها وقيم المهنة الصحفية وخرجنا منها باحثين عن الشهرة والسبق الصحفي على دماء الرجل أو مصيره.
وبعد التغطية الإعلامية القوية التي شهدتها الحادثة التي تعرض لها "الرجل الناصح" والذي لطالما نفى عن نفسه صفة المعارضة للسلطات في بلاده السعودية، ووصف نفسه بالـ"كاتب الصحافي، الناصح الصادق"، أتساءل كيف يشعر الأشخاص الذين أصرّوا على أن الرجل قد قتل -وأعتقده كذلك-؟ هل بتنا نتمنى أن يكون الرجل مقتولاً بالفعل حتى لا تتعرض مصداقيتنا للخطر؟، بالتأكيد أتمنى والكثيرون كذلك أن يكون الرجل حياً ويعود إلى أسرته ومحبيه ولتذهب المصداقية إلى الجحيم، لكن الحديث هنا يدور عن مجرد التفكير والرغبة في أن نكون على حق وأن نكون صادقين حتى لو ترتب على صدقنا هذا أن نتمنى الموت أو الشر لكاتب كبير ومؤثر ورب أسرة متفائل بالحياة فقط لنكون صادقين في نبأ عظيم يفيد بمقتله بطريقة بشعة.
ما حدث في قضية خاشقجي، لربما ينطبق على الكثير من الأخبار التي نتعامل معها، وتكون طبيعتها قاسية ومؤسفة ويجري التعامل معها كمصدر للزيارات والنجاح والشهرة، مثل قضية الطفل السوري إيلان الكردي، والذي غرق على الشواطئ التركية أثناء محاولته الهجرة مع أسرته إلى اليونان عبر البحر، لذلك أعتقد أن موقع فيسبوك وغيره من المواقع التي تحظر التربح من مأساة الآخرين على حق كبير، فكم من المؤلم أن ينطبق المثل الشعبي "مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد" في حالات كهذه، فعندما تكون المصيبة كارثية والفوائد هامشية نكون أمام امتحان الضمير، وهل سنقدّم الفوائد على الوقفة الصادقة؟.
من الأمور الأخرى التي تستدعي التأمل في قضية جمال، الطريقة التي تعاطى فيها بعض السعوديين مع الحادث، بعيداً عن وسائل الإعلام المؤتمرة بأمر الدولة والتي أخرجت نجل الكاتب -المغدور خطفاً أو قتلاً- ليقول "الدولة هي المسؤولة عن والدي وحريصة عليه ولا نريد تحريضاً، دون أن يجرؤ على أن يطرح عليهم السؤال البديهي.. أين أبي؟"، أتحدث عن الأشخاص العاديين، مهما اختلفت أعمالهم ومهنهم الذين تركوا مصير جمال ومشاعر أسرته وباتوا يطاردون خطيبته التركية السيدة خديجة، ويقولون هو لم يخطبها، ويتهمونها بالادعاء بخطبته لمصالح شخصية تارة، ولمصالح دولية تتمثل في مؤامرة هي جزء منها تارة أخرى.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تمادوا حتى هاجموها عبر حسابها في تويتر، وسخروا من مظهرها وشكلها الخارجي، وتصفّحوا حسابها لينتقدوا ما يرونه "حراماً" في مجتمعهم رغم أنه ليس كذلك في مجتمع خديجة، ووصل الأمر حتى وصفها أمير وشاعر سعودي معروف بـ"خطيئة جمال وليست خطيبته"، وقد تفاعل الكثيرون معه وسخروا منها دون أن يكترثوا بدم من يصفونه بابنهم جمال.
كثيرون من الذين هاجموا جمال، كانوا قبل أيام من اختفائه ومقتله يتمنون منه تفاعلاً بسيطاً معهم عبر حسابه بتويتر، أو يحلمون بمجرد السلام عليه أو التقاط صورة تذكارية معه حال مصادفته في مكانٍ ما، فهو جليس الملوك والأمراء وسفيرهم السابق وكاتبهم المخضرم والذي غُضب عليه، لكن يصدق المثل القائل "'إذا وقع الجمل كثرت سكاكينه".
ما حدث مع جمال أمرٌ مؤسف، وقد ذكّر الكثيرين بقصة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي، ولست هنا بصدد ذكر تفاصيل القصّة وإنّما ملخّصها أن سعيد بن جبير خلع بيعة الحجاج مع عبدالرحمن بن الأشعث، فقتل الحجاج بن الأشعث وتوعد سعيد الذي تمكن من الاختباء والهرب لعدة سنوات حتى قُبض عليه في مكة وأرسل للحجاج الذي قتل سعيد ولم يعش بعده إلا أربعين يوماً، وكان الحجاج إذا نام يرى بن جبير في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير؟.
ورغم ما كان من الحجاج وسعيد، لكن أحداً في زمان الحجاج لم يقل بفساد ابن جبير أو جواز قتله أو السخرية من أهله لمجرد أنه على خلاف مع الدولة آنذاك، بل عرف الجميع صلاحه وتعاملوا معه على أساسه حياً وميتاً.
كان جمال خاشقجي صاحب موقف مشرّف إزاء العديد من القضايا في المنطقة والعالم، فقد ساند السوريين والمصريين والليبيين والتونسيين في ثوراتهم، واتخذ موقفاً واضحاً وجلياً مما يجري في اليمن، فضلاً عن مساندته الكبيرة للقضية الفلسطينية، وكل ذلك لأنه رجل حر وصاحب رأي صادق يعبّر عما في نفسه دون أن يأخذ بالاعتبار غضب السلطات أو رضاها، مكاسبهم أو مغارمهم.
فمن الحري بنا كصحافيين أو عاملين في مجال الصحافة أن نقول كلمتنا الحرة الصادقة وأن نعبّر عما في أنفسنا واضعين اعتبارات الرضا النفسي ورضا الضمير فوق اعتبارات الزيارات والقراءات والسبق الصحفي، فاليوم أنت تكتب وغداً ربّما سيكتب عنك، ولا أظن أنك لو كنت مكان جمال ستكون سعيداً بالطريقة التي جرى التعاطي فيها مع قضيته.
كان إنساناً صادق النصح لدولته ونظامها الحاكم وقد صدق بأن قال كلمته ومشى دون أن يخشى الجلادين أو القتلة، فاعمل بنصيحته و"قل كلمتك وامش".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.