وسط سيل التعليقات والتحليلات وتدفّق الأخبار التي تناولت قضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ضلَّت بعض الحقائق طريقها، فلم تحظَ بما تستحق من اهتمام. ولا يتعلق الأمر هنا بحقيقة ما جرى لخاشقجي، وكيف ولماذا، فقد بدأت تلك المسائل في الانكشاف، وستظهر تفاصيلها تباعاً كاملة. لكن ما غاب عن شريط الأنباء في قضية خاشقجي تلك الجوانب الخفية التي لم تظهر مباشرة. وانشغل عنها الجميع بالأحداث المثيرة والسجال السياسي والإعلامي. بينما تبقى تلك الجوانب "المسكوت عنها" مفهومةً ضمناً من كل أطراف القضية، لكنَّ أحداً لا يتحدث عنها.
من الأمور المسكوت عنها في حكاية خاشقجي، أن حقوق الإنسان وقيمة المواطن والتنمية البشرية وغيرها من شعارات ترفعها بعض الدول، هي هراء تسوقه الدول المتقدّمة للاستهلاك الإعلامي المحلي عندها. وهي في الوقت ذاته مجرد نفاق ومجاراة من الحكومات العربية لضغوط الغرب وابتزازه، في حين لا تقبل الحكومات العربية أي اختلاف معها مهما كان بسيطاً. فقد مثّل مقتل خاشقجي ذروة تجليات التسلط السلطوي العربي، وجسّد سقوطاً مدوياً لشعارات وقيم يُسوّقها الغرب ولا يطبقها.
وعلى خلاف معظم القادة الذين يجملون الحقائق، لم يخجل الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، من التصريح بما يخفيه غيره من الزعماء الغربيين، فقد قال على الهواء إن خاشقجي ليس مواطناً أميركياً؛ لذا لا يجب وقف الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، وتبلغ قيمتها 110 مليارات دولار. صحيح أنه أكد ضرورة معاقبة الرياض "بشدّة" حال ثبوت تورط الحكومة السعودية في مقتل جمال، لكنه في هذا أيضاً يكذب. إذ يعرف ترمب مسبقاً، من اليوم الثالث لاختفاء جمال، أن اختفاء الرجل تم داخل القنصلية السعودية وكان مدبّراً. وهو ما أكدته اتصالات سجلتها المخابرات الأميركية. إذاً، لن يذهب ترمب بعيداً في معاقبة السعودية، حرصاً على بقاء أموالها دوّارة في الاقتصاد الأميركي.
ولن يختلف كثيراً موقف بقية الدول الغربية التي أخذت تهدّد الرياض وتتوعدها، مثل بريطانيا وفرنسا، فالعقوبات المنتظرة ستظل محصورة في النطاق الاقتصادي، وتحديداً التجاري الذي لا يؤثر قطعاً في اقتصادٍ لا يعاني مشكلات كبيرة في الوفرة المالية. وأي عقوباتٍ أو إجراءات قضائية دولية، مثل الإحالة إلى محاكمات أو إجراء تحقيقات جنائية دولية، فستقف عند مستوى معين، وسيكون ضحيَّتَها المسؤولون التنفيذيون عن عملية خاشقجي.
في مقابل الموقف الأميركي والأوروبي الدعائي، جاءت الإدارة التركية للقضية حذرة وصارمة في آن. فقد بدا من البداية أن المسؤولين الأتراك يتجنّبون إعلان مواقف أو حقائق، على الرغم من امتلاك معلوماتٍ كثيرة مُفصلة عما جرى لخاشقجي. كما لو كانوا يتركون للرياض حرية البحث عن مخرجٍ من دون استعجال. مع التمسّك الكامل بالحق في الحصول على ردود وتفسيرات مقنعة وعملية، أو السماح للسلطات التركية بالتحقيق، وإدارة المسألة قضائياً.
الوجه الآخر المسكوت عنه في الإدارة التركية للأزمة أن عملية الإيقاع بجمال خاشقجي، وما آلت إليه من تطورات سلبية بالنسبة للرياض، أحدثت فرصة سانحة أمام أنقرة لتحسين وضعها داخلياً وإقليمياً، في مواجهة ضغوط قوية، مصدرها مثلث السعودية والإمارات ومصر، المدعوم بغطاء أميركي.
ثمة جانب أهم من كل ما سبق، لم يكن خفياً تماماً، لكنه تكشّف كاملاً في مقابل حياة خاشقجي. وهو المتعلق بدلالة العملية ومغزاها بالنسبة للسياسة السعودية، فقد تجلت في عملية خاشقجي معضلة سعودية، بدت بوادرها سابقاً في حرب اليمن، واستهداف أمراء ورجال أعمال، والاندفاع إلى التحالف مع ترمب واسترضائه، لكن عملية خاشقجي تجاوزت كل الحدود، فتكشفت فيها حالة عميقة من عدم الكفاءة والرعونة، بدءاً باتخاذ القرار من البداية، مروراً بالتخطيط والتنفيذ، ثم في إدارة الأزمة ومعالجة تبعات العملية.
وما لم تستفِد الرياض من دروس (ودلالات) تلك العملية المعبرة عن قصور شديد في الأداء الأمني والاستخباراتي، وأزمة حقيقية في السياسة والإدارة، فإن ما لم يظهر بعد من تداعياتها، والأثمان التي ستتكبدها الرياض في مقابل حياة خاشقجي، ستكون أعظم شأناً مما يمكن تخيّله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.