أعتقد أنها نهاية محمد بن سلمان…
تُرى ما الذي كانت أفكار جمال خاشقجي الأخيرة تدور حوله؟ تلك الأفكار التي راودته أثناء جذبه إلى خارج مكتب القنصلية العامة السعودية في إسطنبول بواسطة رجلين، ليكتشف أنَّه دخل بقدميه في المصيدة.
لم يكن خاشقجي وافداً جديداً، كان يعلم جيداً كيفية عمل السفارات والقنصليات السعودية؛ إذ سبق له العمل شخصياً في اثنتين منهما، بواشنطن ولندن. كان يعرف الوحش، وطريقة تفكيره، وطريقة تصرفه، وحتى رائحته.
ظنَّ أيضاً أنَّه يعرف القوانين جيداً؛ إذ عمل في السابق مع تركي بن فيصل، وهو رئيس سابق للمخابرات السعودية. كانت قواعد اللعبة وحشية، لكنها عقلانية. تُوجد خطوطٌ حمراء واضحة، يُمكنك إذا عرفتها أن تحصي المخاطر التي ستواجهها بدقة.
الثواني الأخيرة في حياة خاشقجي
اشترى خاشقجي لتوه شقةً في إسطنبول، وكان سيتزوج في الليلة التالية، وانتظر الثنائي وصول الأثاث بفارغ الصبر. ربما ظن أنَّ أسوأ ما يُمكن أن يحدث هو التحقيق معه أو احتجازه، لكن هل كان ليُخاطر بتعريض نفسه للاختطاف أو تعريض حياته للخطر من أجل ورقةٍ تسمح له بالزواج مرةً أخرى في تركيا؟
أخبر خاشقجي أصدقاءه أنه غادر المملكة لعدم قدرته على احتمال فكرة السجن، لذا شعر بواجبٍ أخلاقي للحديث بصوتٍ عالٍ عن الاعتقالات في المملكة. فواجبٌ عليه أن يتكلم طالما يتمتع بحريته، بينما الآلاف مثله يقبعون في السجون.
في الثواني الأخيرة في حياته، لا ريب أنَّ خاشقجي أدرك أنَّه لا جدوى لكل هذا بعد الآن.
إذا كان موت خاشقجي ضرباً من الجنون، فلا بد أنَّ من أمر به هو رجلٌ فقد عقله تماماً، رجلٌ لا يتمتع بالعقلانية أو القواعد أو ضبط النفس، رجلٌ يتصرَّف بحصانةٍ تامة، ولا يَأمن له أحد.
أصداء الخبر في فرجينيا
غيَّر ذلك الإعصار من الدرجة الرابعة، الذي أطلقه مقتل خاشقجي من اتجاهه خلال الثماني وأربعين ساعةً الماضية، إذ لم يعد يحوم فوق مضيق البسفور التركي فقط، ولم يعد مجرد خلافٍ بين بلدين نائيين في الشرق الأوسط (السعودية وتركيا)، لكل منهما سجل لا يمكن إغفاله في كيفية التعامل مع الصحافيين.
ومع تواتر ظهور تفاصيل عن جريمة القتل ليلاً، بما في ذلك هوية الركاب على الطائرات الخاصة، ومنشار العظام المستخدم في تقطيع جثمان خاشقجي، والأخبار التي أعلنتها شخصياً عن جَره إلى خارج مكتب القنصل العام، بالإضافة إلى التسجيل الصوتي والمرئي المرعب للتحقيق الذي جرى مع خاشقجي قبل تعذيبه وقتله، الذي شاركه الأتراك مع حلفائهم الغربيين، أصبحت هذه القضية أزمةً كُبرى بالنسبة للبيت الأبيض والولايات المتحدة الأميركية.
ولم تَتَكشَّف الأبعاد الكاملة لهذه الأزمة بعد. فمثل هذا التصرف الوحشي كان سيُصبح مصدر فخرٍ لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فالضحية المسالمة المعروفة جرى احتجازها وضربها وتعذيبها، قبل التضحية بها كالحيوانات، لكن هذا الفعل لم يرتكبه متعصبون دينيون. ومَن أمر بهذه الجريمة ونفَّذها هو الحليف العربي الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، داخل مقراته الدبلوماسية، وباستخدام موارد الدولة.
يستمر السعوديون في نفي مسؤوليتهم عن الجريمة. ونفى مسؤولون سعوديون بشدة أي علاقة لهم باختفاء خاشقجي، ويقولون إنَّه غادر القنصلية في إسطنبول في وقتٍ لاحقٍ بعد وصوله، غير أنّهم لم يقدموا أي دليل لدعم زعمهم، ويقولون إنَّ كاميرات المراقبة بمقر القنصلية لم تكن تسجل حينها.
وصل إعصار خاشقجي إلى فرجينيا، وهو الآن في طريقه إلى البيت الأبيض. وزعم الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، عبثاً في تصريحات له الليلة الماضية، أن "هذه الجريمة حدثت في تركيا، خاشقجي ليس حتى مواطناً أميركياً". لكن بحلول ذلك الوقت، لم يكن خاشقجي مجرد معارض سعوديٍ من بين كثيرين، بل أصبح "أحد مواطني فرجينيا".
بدأت العاصفة في اقتلاع اليقين، على طول الطريق إلى بنسلفانيا: أنَّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي اختير بعض حراسه الشخصيين ضمن قائمة الـ15 شخصاً المسؤولين عن اغتيال خاشقجي، هو "رجلنا". إذ قال ترمب لأصدقائه: "لقد وضعنا رجلنا على قمة الحُكم"، كما أفاد مايكل وولف بكتابه Fire and Fury الذي صدر في وقت سابقٍ من هذا العام.
وذهبت أيضاً الصداقة التي بدأها جاريد كوشنر، صهر ترمب ومساعده في البيت الأبيض، مع محمد بن سلمان أدراج الرياح. وانتهى عصر اللقاءات التي تدوم حتى الرابعة فجراً، وتبادل القصص، ووضع الاستراتيجيات (إذ أفضى محمد بن سلمان لمصادرٍ مقربة بأنَّ كوشنر ناقش معه أسماء السعوديين الذين لا يدينون بالولاء لولي العهد، رغم أنَّ المتحدث باسم كوشنر أنكر حدوث ذلك).
تحوَّل الدعم المتواصل والمباشر الذي منحه ترمب لولي العهد منذ تنصيبه إلى مصدرٍ للحرج، إضافة إلى ما حصل عليه محمد بن سلمان من تجميل لصورته باستمرارٍ والكتابات في وسائل الإعلام الأميركية التي تبجَّحت بوصفه إصلاحياً شاباً.
كل هذا انهار في ليلةٍ واحدةٍ، وتناثر حطامه في كل مكان، فوسائل الإعلام الأميركية ثائرة، إذ كتبت كارين عطية، رئيسة التحرير التي كان يعمل لديها خاشقجي في صحيفة Washington Post، على تويتر: "اكتفينا من تملق الغرب لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، هو ليس مُصلحاً، بل هو ملكٌ صبيٌّ مجنون، يُدير بلاده كسائقٍ متهورٍ أسكرته سلطة أموال النفط، الناس يفقدون حياتهم".
هل هو طاعونٌ في الرياض؟
شرع العظماء والطيبون في الانسحاب من مبادرة مستقبل الاستثمار -وهو مؤتمر الاستثمار المنتظر عقده في الرياض أواخر هذا الشهر- بسرعةٍ كبيرةٍ، لدرجةٍ تشعر معها أنَّ طاعوناً انتشر في الرياض، ومنهم ريتشارد برانسون وصحيفة New York Times وشبكة CNN ودارا خسروشاهي، الرئيس التنفيذي لشركة Uber Technologies، وبوب باكيش، الرئيس التنفيذي لشركة Viacom Inc.
وسبحان الله، فقد انسحبت كذلك من المؤتمر صحيفة Financial Times البريطانية.
هبَّت الرياح أيضاً على الكونغرس، إذ يجري الإعداد لتحركٍ بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل مجلس الشيوخ لفرض عقوباتٍ على محمد بن سلمان، بموجب قانون ماغنيتسكي (وهو التشريع المستخدم ضد المواطنين الروس المتورطين في جرائم خطيرةٍ).
يضغط كذلك السيناتور الجمهوري البارز، بول راند، لخفض التمويل والتدريب، وغيرها من التنسيقات مع الجيش السعودي "لحين عودة خاشقجي على قيد الحياة".
وقال أيضاً ليندسي غراهام، السناتور الجمهوري النافذ، في تصريحات إلى شبكة CNN الأميركية: "لا تحتاج أن تكون شيرلوك هولمز لتشعر بالقلق هنا. وفي حال حدث هذا بأيدي الحكومة السعودية وكان ولي العهد متورطاً في الأمر، فسيُدمر هذا قدرته على قيادة البلاد على الساحة الدولية".
بدأت الشبكة المعقّدة من جماعات الضغط العاملة لصالح السعودية والإمارات في واشنطن، التي أُعدت لتنسيق دخول محمد بن سلمان إلى المسرح الدولي في الانهيار أيضاً.
كما أنهت Harbour Group، الشركة التي يقع مقرها في نيويورك وتولت تقديم الاستشارات للسعودية، منذ أبريل/نيسان عام 2017، عقدَها الذي تبلغ قيمته 80 ألف دولارٍ أميركي، الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول. وعلَّق المدير العام، ريتشارد مينتز قائلاً: "لقد أنهينا علاقتنا (مع السعودية)". يُذكر أنَّ مينتز على علاقةٍ وثيقةٍ بالسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، الذي لعب دور متعهد محمد بن سلمان في واشنطن العاصمة.
قصة ملائمة للتعتيم
بالعودة إلى تركيا، كان الرئيس رجب طيب أردوغان بصدد استقبال وفدٍ رفيع المستوى، يرأسه الأمير خالد الفيصل، وهو حاكم مكة ومستشارٌ مقربٌ من الملك. ولا تَخفى على أحد حقيقة كونه الشقيق الأكبر لمدير خاشقجي السابق، الأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق للمخابرات السعودية والسفير السابق في واشنطن ولندن.
ويجري حالياً إعداد خطةٍ لقطع أي صلة للملك سلمان بهذه الأحداث. ويُعتبر التحقيق المشترك بين تركيا والحكومة التي ارتكبت هذا العمل الوحشي بمثابة قصةٍ ملائمة للتعتيم على القضية.
وبمشاركتها التسجيل الصوتي والمرئي للحظات خاشقجي الأخيرة مع حلفائها الغربيين، مساء الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول، فقد أكدت تركيا على نتيجة التحقيق قبل حتى أن يبدأ. ويظل التساؤل الوحيد في عقول السعوديين الآن، هو كيف يمكن عزل الملك الصبي عن الآثار الارتدادية لهذه النكبة.
والرجل الذي صنع من محمد بن سلمان ما هو عليه وجعله يرتقي سلم الحكم وأعاد توجيه ثقل السياسة الخارجية الأميركية بالكامل وأقنع المؤسسات العسكرية والأمنية بوضع ثقتهم فيه، هو ترمب. وترمب هو أيضاً مَن سمح لولي العهد بالتصرف بحرية في ظل سياسة الإفلات من العقاب.
ولا بد أنَّ شيئاً واحداً هو ما يشغل باله الآن: إذا كان محمد بن سلمان قادراً على إصدار أوامرٍ بهذه الوحشية وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، بعد مضي 16 شهراً فقط على تنصيبه ولياً للعهد، فأي تصرفٍ مجنونٍ ومستهتر سيقوم به كملكٍ لبلدٍ يعتبره الجيش الأميركي بمثابة العمود الفقري لنفوذه في الخليج والمنطقة ككل؟
وهنالك ثلاثة متطلباتٍ ينبغي أن تكون في نصابها، حتى يتمكن ولي العهد من أن يُصبح ملكاً. أولاً وقبل كل شيء، تأييد البيت الأبيض. ثانياً، دعم العائلة الملكية. ويأتي الحصول على استحسان الرأي العام في المرتبة الثالثة وهو أمر بعيد المنال. ويتفوق تأييد البيت الأبيض حتى الآن على المتطلبين الآخرين بمراحل. هذا هو الوضع الراهن، ولن يُصبح ترمب متدخلاً في الشؤون الداخلية إذا قرر سحب تأييده لولي العهد في عملية وصوله إلى كرسي الحكم.
ولا يمتلك ترمب سوى تصرفٍ منطقيٍّ واحدٍ بعد الكشف عن محتويات الشريط الصوتي المرئي، إذ لم يعد بوسعه السماح لمحمد بن سلمان بالوصول إلى العرش. وهذا أقل ما يستحقه جمال خاشقجي، ومصير الأعداد التي لا تُحصى من القتلى والمعذبين والمسجونين بسبب هذا النظام.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.