هل كان جمال خاشقجي معارضا هاربا من نظام يدّعي الإصلاح، ويعرض نفسه على العالم بصفته الإصلاحية، ثم هو يرفض كل الأصوات الداعية للإصلاح، بل ويطاردها ويتهمها بالإرهاب داخل البلاد وخارجها، حتى امتلأت معتقلاته بأعداد غير مسبوقة بالمملكة من قبل؟
هل كان ناشطا سياسيا يعقد المؤتمرات، يعلن عداءه لنظام الحكم في بلاده ويطالب بتغييره؟
هل كان ضيفا مستديما على وسائل الإعلام العالمية، والتي يعمل في أهم صحفها كاشفا مساوئ وأكاذيب من يدّعون الإصلاح ثم هم يحيلون البلاد لسجن كبير؟
الحقيقة أن الصحفي السعودي الحر جمال خاشقجي الذي اختفى في ظروف غامضة لم يكشف عنها النقاب حتى هذه اللحظة داخل قنصلية بلاده؛ ليس أيا من ذلك.
فلم يكن معارضا، وهو الذي يعلن دائما أنه لا يعادي النظام السعودي الحاكم، ولا يرفض تحكم محمد بن سلمان ولي عهد بلاده بالأمور، وإنما كما يصف هو نفسه بـ"الناصح الأمين" الذي يرفض تورط في بلاده في ما قد يؤثر في علاقاتها بجيرانها الذين تربطها بهم علاقات متجذرة تاريخية ودينية ولغوية ومصيرية.. كل ما نصح به خاشقجي حكام بلاده أن يخرجوا من تلك البؤرة المشبوهة في اليمن، بالتعاون مع دولة الإمارات التي تحيطها الشبهات في الإنفاق ضد رغبة الشعوب العربية في التحرر من ربقة التبعية التي قيدتها بها أنظمتها، والبحث عن حياة كريمة.
كل ما أراده خاشقجي لبلاده هو عدم التورط في خصومة مع قطر الشقيقة، ومحاربة أهل السنة لمجرد خلافات فرعية.. كل ما فعله خاشقجي هي أمنيات ونصائح هادئة لتحسين وجه بلاده على يد نفس النظام، دون المطالبة بتغييره.
ومع ذلك، لم يستطع النظام السعودي أن يحتمل ذلك الصوت الهادئ في المطالبة بأي إصلاحات، فاختفى الرجل دون أن يترك أي أثر بمجرد دخوله قنصلية الوطن في الأراضي التركية.
الوجه القبيح للنظام الإصلاحي
لن أستطيع في تلك السطور أن أقدم رواية لما حدث للسيد جمال خاشقجي، بينما التحقيقات لم توضح بعد النتائج التي توصلت إليها إن كان ثمة نتائج، ولا أحد يستطيع أن يجزم بمصير الرجل في ظل الخطاب المبهم للسلطات التركية، رغم تصريحات الرئيس الطيب أردوغان المقتضبة وتهديداته غير المباشرة بأنه أصبح لزاما علي القنصلية السعودية أن تقدم دليلا على خروج الرجل أو عدم خروجه، وأنه سوف يتعرض الجميع للعقاب بمن فيهم المسؤولون السعوديون، وفي ظل ورطة النظام السعودي الذي يتحمل المسؤولية كاملة بما أنه اختفى داخل القنصلية وليس خارجها.. ذلك النظام الذي يطوف العالم بالشركات الدعائية التي تنفق ملايين الدولارات لتسوق عالميا "الرجل الذي سينتقل بالمملكة من عصور الظلام إلي عصور الحداثة والتقدم والتغرب والانفتاح".
وإنما ما يهمني هنا هي تلك المهمة التي قام بها الصحفي الحر جمال خاشقجي، والذي يعمل ككل صحافيي العرب – خاصة الأنظمة الاستبدادية – في مهمة تعد من أصعب المهمات في ظروف وأجواء تحيط بالصحفي الكثير من المخاطر على حريته ومصدر رزقه وتهديدات تحيط بأسرته، بل وحياته في أحيان كثيرة.
فالإعلامي الحر في بلاد الاستبداد ليس مجرد ناقل للحقيقة، وليس مجرد فاضح للفساد والمفسدين، وإنما تمتد مهمة الصحفي للقيام بعمليات التوعية اللازمة لإيقاظ الشعوب المستبَد بها لتنتفض على حالة الظلام، وترفض الأمر الواقع المفروض وتعلم حقوقها وتطالب بها. لا تقتصر مهمة الصحفي على كشف الحق، وإنما عليه التعريف بطريق الوصول إليه.
ويشهد العالم اليوم على الوضع المتردي للصحفي والإعلامي العربي الذي يتحرك في مساحات من التضييق لا تسمح له بمجرد النطق إلا وسيف الاعتقال والملاحقة تطارده، وتطارد ذويه؛ لدرجة أن تجبر زوجة الإعلامي خاشقجي على طلب الطلاق منه بينما كانت في طريقها إليه، بمطار الرياض أو السجن هي وابنها، فيضطر الرجل لتطليق زوجته في مقابل عودتها لبيتها سالمة، كما كشف الإعلامي محمد ناصر في حلقة الأحد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، في برنامجه بقناة مكملين (مصر النهاردة)، ولدرجة أن المعتقلات في معظم بلاد الربيع العربي مليئة بالصحفيين وأصحاب الرأي والمختلفين فكريا مع الأنظمة الشمولية، فمنهم من دفع حياته ثمنا لكلمة أو كاميرا نقلت جزءا ضئيلا من الحقيقة المرة، على سبيل المثال مصعب الشامي وأحمد عاصم بمصر، ومنهم من دفع حريته ثمنا فيجدد له بالسجن دون تهم أو أدلة، ومنهم من ترك البلاد والعباد ولم يعد آمنا على نفسه حتى في بلاد المهجر، فيدخل سفارة بلاده لإنهاء بعض أوراقه الخاصة فلا يخرج منها، مثل جمال خاشقجي، لتتم مهمته التي لم يسع إليها هذه المرة.
المهمة الأخيرة
تلك المهمة التي قدمها خاشقجي في ثوب هادئ يشهد له العالم بها، وهي أنه ليس صوتا معارضا، وإنما صوت إصلاحي ناصح أمين لأمته وبلاده ونظامه الحاكم.
ينجح خاشقجي في مهمته الأخيرة التي كتبها، بإخفائه قسريا بالقتل أو التعذيب أو الحبس.. لسنا ندري بعد.
مهمة فضح أي ادعاء لهذا النظام بأنه نظام يسعي للديمقراطية أو نقل بلاده من أي ظلام يدعيه، وإنما هو نظام شمولي إجرامي يأبى أن يسمع أي صوت غير صوته، حتى لو كان صوت ناصح له.
نجح خاشقجي في مهمته الأخيرة، وهي تضييع الملايين على محمد بن سلمان، والتي أنفقها في تحسين صورته والتسويق له كبديل متنور عن الوجه الاستبدادي لحكم آبائه وأجداده.
ينجح خاشقجي بغير كلمات؛ أن يقدم للعالم الصورة الحقيقية عن وجه أسود لنظام مستبد سوف يمثل للعالم، إن هو نجح في الوصول للحكم المطلق، خطرا شديدا على أرواح آلاف الأبرياء، طالما أنه ينتهج القتل والتغييب وسيلة للتعامل مع معارضيه، بل ربما يمتد خطره إلى معارضين له من جنسيات أخرى غير الجنسية السعودية.
نجح خاشقجي كصحفي وإعلامي وكإنسان في تبليغ العالم رسالة أن يحذر من هذا الذي يدعي الحداثة، بينما هو في حقيقته يحمل فكرا إجراميا يعيد به عصور الظلام الحقيقية وعلى العالم ليس فقط أن يحذر في التعامل معه، وإنما يجب عليه أن يوقفه عن الوصول لما يريد بكشف الحقيقة كاملة، فيجيب أين جمال، حيا أو شهيدا، قبل أن تؤول له الأمور، فيصبح الجميع في خطر.
أتممت رسالتك يا خاشقجي حتى وأنت مختف، فهل يتم أحرار العالم ما عليهم بكشف الحقيقة حتى لا تضيع دماء الرجل هدرا؟ هذا ما نتمناه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.