"لا تذهب إلى القنصلية.. إنها أرض معادية" بتلك الكلمات القليلة شكلاً والمميتة موضوعاً نصحني العديد من المعارضين المصريين الأكبر مني سناً وخبرة عندما أفصحت لهم في عام ٢٠١٤، عن رغبتي في الذهاب إلى القنصلية المصرية في إسطنبول للقيام بمعاملة حكومية ضرورية ومُلحة.
لم أستوعب تلك الكلمات وصممت على عدم الأخذ بهذا الاعتبار العدائي لقنصلية بلادي، مهما كانت الخلافات مع القيادة السياسية، فحاولت أن أعرف منهم ما الذي يمكن أن يحدث من ضرر داخل القنصلية، وتشابهت إجاباتهم حينها بما حدث مع الأستاذ جمال خاشقجي الصحافي السعودي واختطافه داخل قنصلية بلاده.
كيف يمكن لبعثة دبلوماسية أن تعتدي على مُقيم بشكل قانوني داخل دولة محترمة مثل تركيا بالخطف أو القتل؟ ذلك هو السؤال الذي رجح كفة ذهابي إلى القنصلية لأول مرة بعد صراع فكري ونفسي طويل.
كما أن حكم الإعدام الغيابي الذي صدر في حقي عام ٢٠١٦ لم يمنعني من التوجه إلى القنصلية المصرية في إسطنبول كلما دعت الضرورة، فأنا وإن كنت أخشى أي ضرر ربما يلحق بي داخل القنصلية إلا أنني لا أحمل نفس متهم.
مع كل زيارة للقنصلية كنت أتخذ عدداً من التدابير الأمنية تتمثل في اصطحاب صديق ينتظرني بالخارج أو إبلاغ أحد المقربين هاتفياً بتوجهي للقنصلية، حتى يتمكن من اتخاذ ما يلزم في حال انقطع الاتصال معي.
وكان قرار القنصلية مع بداية عام ٢٠١٦ بمنع إدخال الهواتف المحمولة مع المواطنين، وضرورة تركها في غرفة الأمن سبباً للبحث عن تدابير إضافية أُثبت فيها دخولي القنصلية، فاعتدت على تصوير مقطع فيديو أو تسجيل صوتي أمام بوابة القنصلية أذكر فيها التاريخ والتوقيت بدقة وسبب وجهة الزيارة، ثم أرسلها لأحد الأصدقاء المقربين.
التوجه إلى القنصلية لا يكون إلا تحت ضغط الضرورة والاضطرار بالضبط كما كانت أسباب مغادرتي لوطني الحبيب، والذي رفضته داخل وطني من ظلم للمواطن وترهيب وسوء معاملة رفضته داخل القنصلية، ووقعت عدة مشادات بيني وبين موظفين بسبب سوء معاملة المواطنين وانفجرت في إحدى المرات في الموظف أمام جمع من المواطنين داخل صالة الانتظار ((أنتم بتربونا يعني ولا إيه؟ في إيه؟)) وتبادلنا الحديث بتوتر وتدخل المواطنون لتهدئة الأجواء ثم عاد الموظف، وقد تخلى عن الحدة والصبغة العسكرية الجافة والتوبيخ التي تحكم حديثه مع المواطنين وبدأ في إجراء المعاملة الخاصة بي.
إن متلازمة الاضطرار التي تسيطر على طبيعة تعامل مواطن مثلي مع قنصلية بلاده (إجراء حكومي ضروري – تدابير أمنية ضرورية – الحدة وسوء التعامل) لا تؤدي إلا إلى توتر وإرهاق نفسي لا ينتهي، إلا بانتهاء كل معاملة بصورة طبيعية.
أيضاً عدم التزام القنصلية بتسليم كل مقدم طلب وصلاً يثبت من خلاله أنه قام بمعاملة قنصلية، كما هو معمول متبع في كافة المؤسسات الحكومية في مصر وكل دول العالم، والحصول على هذا الوصل أيضاً ليس بالأمر السهل، ويحتاج مع معرفة المواطن قوة نفسية وإصراراً لمواجهة الموظف وإغلاق طرق التبرير الوفيرة لديه للتنصل من مسؤولية تسليم وصل المعاملة للمواطن.
كل هذا يمثل ما قبل واقعة اختفاء الأستاذ جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وتواتر الأنباء عن مقتله داخلها! تلك هي الواقعة الفارقة في منظوري الشخصي لطبيعة العلاقة بين المضطهدين وقنصليات بلدانهم، أدواتي المعرفية التي مكنتني من مواجهة أي تخوف في الماضي لتحقيق مصلحة ضرورية لا تتم إلا في القنصلية المصرية، عجزت تماماً عن تحدي واقعة الأستاذ جمال خاشقجي، وأصبحت تلك الأدوات من الناحية النفسية في حجم نملة تناطح بناية تعانق السحاب.
أعلم أن هناك معاملات ضرورية جداً لو لم يقم المضطهد بها سيقع ضرر على حياته وربما أسرته، فخدمات القنصلية لا تقتصر على جوازات سفر لا تصدر في الأساس للمعارضين، ولكنها تتجاوز ذلك بكثير بكمية خدمات وجودية في شتى المجالات، ولكن المخاطرة الآن تضع الحق في الحياة وهو أسمى الحقوق في خطر، ولا أرى للحق باباً بعد أن يوضع الإنسان تحت التراب ظلماً.
لا سبيل أمام كل معارض إلا البحث عن مركز قانوني بديل للحصول على جنسية أخرى، أو التقدم بطلب اللجوء السياسي سواء في الدولة التي يقيم فيها وتمنح قوانينها هذا الحق، أو من خلال مكاتب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والمنتشرة مكاتبها في دول العالم ومن بينها تركيا.
أما إن كان للذهاب إلى القنصلية بد ولضرورة قصوى يجب أن يكون بجوارك صديق يقوم بعمل بث مباشر يغطي دخولك القنصلية ويثبته بأدق التفاصيل من حيث الزمان والمكان.
إن واقعة اختفاء الأستاذ جمال خاشقجي انتهاك صارخ وغير معقول على أبسط قيم الإنسانية، كما أنه اعتداء على مفهوم السيادة للدولة التركية على أراضيها ومسؤوليتها عن سلامة وأمن المقيمين فيها، وبكل تأكيد ستكشف التحقيقات عن ملابسات الواقعة ومحاسبة المتورطين فيها سواء كانت الواقعة اختطافاً، وهذا ما نتمناه ويتم إطلاق سراح الأستاذ جمال، أو كانت اختطافاً مقترناً بقتل.
أيضاً على الحكومة التركية وغيرها من الحكومات إعفاء المعارضين الأجانب المقيمين من إحضار مستندات لا تستخرج إلا من قنصليات وسفارات بلادهم، مثل شهادات اللقب كشرط لقبول ملف إقامة الأجنبي والقيد الفردي كشرط لإتمام الزواج وفق القانون التركي، ولعل هذا السبب هو الذي دفع الأستاذ جمال للذهاب إلى القنصلية.
إن استمرار عيش المعارضين بمختلف جنسياتهم وخصوصاً الصادر ضدهم أحكام قاسية كالإعدام بدون مركز قانوني يوفر حماية هم بحاجة لها، ماهو إلا تبديد للطاقة النفسية وترك مساحات التفكير أرضاً خصبة لنمو الخوف وانهيار الشعور بالأمن والسلام الداخلي لمستحقي الحماية، وكم منهم يموت في اليوم ألف مرة واغترب في غربته عن نفسه واختفت داخله صور الحياة الطبيعية حتى أصبح مجرد تذكرها بتفاصيلها حلماً عنيداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.