أخبرني يومها بأن السعودية ستستفيد من محمد بن سلمان، كان هذا هو الغداء الأخير مع جمال خاشقجي، الكاتب الصحافي الكبير، الذي اغتالته السعودية داخل قنصليتها في إسطنبول، حين سألته: كيف؟ قال: إن التحديث مهما بدا من ثقب إبرة وأياً كانت أسبابه السياسية فهو فرصة، وأنا سعيد رغم كل شيء بأي خطوة تخطوها بلادي نحو الأفضل.
تحدث عن السعودية بدفء لا يتناسب مع معارض اضطرته ظروف الملاحقة والقمع إلى ترك بلاده والحرمان من أسرته وأولاده.
تحدث عن أسرته بوصفها هاجسه الأكبر، بدا قلقاً مما يتعرضون له في الداخل السعودي، ومن الثمن الذي ينتظرهم جراء ما يكتب، لم يكن خاشقجي خصماً للنظام السعودي، كما أن توصيف "معارض" لا ينطبق عليه كثيراً، ولم يكن مهتماً بإظهار صفة المُعارض أو التفاخر بها، على العكس، كان متابعاً "نزيهاً" للشأن العام في بلاده، كثيراً ما دارت أمامي مناقشات حول خاشقجي، وكان الشباب المتحمّس من أبناء الربيع العربي ووعيه، في المملكة، يعتبرونه ليناً، مهادناً، متوازناً أكثر من اللازم، لا يستغل وجوده خارج البلاد في جلد ظهور الطغاة والظالمين، رأيتهم غير مرة يزايدون عليه أمامه، في ندوات ولقاءات بإسطنبول، وكان يدهشني بردوده الهادئة وابتسامته المتفهمة، دون افتعال.
خاشقجي نموذج للمعارض الذي يتمناه أي نظام "محترم"، المعارض الذي يسعد بإنجازات السلطة، حال تحققها، ويرصدها، ويشير إليها، ولا يتأزم من مزايدات رفاقه، وحين يشتبك، يفعلها بمهنية، وبهدوء، وبما يحقق صالح كل الأطراف، وأولها السلطة نفسها، لو كان فيها مَن يسمع أو يعقل، هذا هو النموذج الذي قتلته السعودية، كأنها عصابة لا دولة، تختطف وتعذب وتقتل وتتخلص من الجثة وتتنصل من الجريمة، كل ذلك داخل سفارتها، التي من المفترض أنها تراعي مصالح مواطنيها، لا أدري لماذا تذكرت مشايخ السعودية، وهيئتها العلمائية، عندما تأكدت من خبر اغتيال الصديق العزيز جمال خاشقجي، ترى كيف سيتصرفون؟! ماذا سيقولون في إراقة دم امرئ مسلم، لرفع قلمه لا سلاحه، وجادل بالتي هي أحسن؟! كيف سيغردون صبيحة يوم قتله غيلة وغدراً؟ هل يكتبون بالتسبيح والحوقلة والأدعية المأثورة؟ هل سينتفضون لدم أخيهم كما انتفضوا من أسبوع مضى لتعكير مزاج تركي آل الشيخ بسبب هتافات جماهير الكرة؟ دم الكاتب أم مزاج المسؤول الرياضي؟ أيهما أولى بانتفاضة أهل الشرع في بلاد الحرمين؟!
أكتب والألم يعتصرني، عن رجل عرفته كاتباً، ثم تعرفت إليه في سنواته الثلاث الأخيرة، فلم أرَ فيه إلا شخصاً هادئاً، وكاتباً إصلاحياً، يتعامل مع الأمور بواقعية، ولا يأمل كثيراً، كان خاشقجي كما نقول في مصر بالبلدي: راضٍ بقليله، السماح للمرأة بقيادة السيارة، وإرسال الشباب السعودي للبعثات التعليمية في الخارج، وبعض الحريات الاجتماعية ذات الطابع الترفيهي، يتحدث عنها بوصفها أشياء تدعو إلى البهجة، ويأمل في المزيد دون صخب، ما المطلوب كي يكون الكاتب سعودياً ولا يلقى الله مقتولاً أو منافقاً؟
كان خاشقجي يتابع الشأن المصري عن كثب، في المرة الأخيرة كان يحمل كتاباً بعنوان "العبور الاقتصادي لمصر"، يرفض أن يُحرم من الكتابة عنها، يعتبرها جزءاً من اهتماماته ككاتب عربي مشغول بقضايا أمته، يتحدث بشجن عن ثورة يناير، ويتساءل عن أمل قريب لعلي أمنحه إجابة يعلم أنها ليست موجودة لكنه يلتمسها في مصري لعله يعلم ما لا يعلمه هو.
في شهوره الأخيرة، أو تلك التي لم نكن نعرف أنها الأخيرة، عاش في واشنطن، اقترب أكثر من الديمقراطية الأميركية، وازداد إعجاباً بها، اختلفت معه، واستشهدت بكتابات تشومسكي، قال في بساطة إن تشومسكي يكتب ما يكتب حباً في التجربة الأميركية ورغبة في الحفاظ عليها، وأن الإدارة الأميركية تسعد بمثل هذه الكتابات النقدية القوية وما يماثلها من أعمال فنية تنتقد الإدارة الأميركية وتُشرحها لأنها ترى في كل هذا "مضادات حيوية" يحتاجها الجسم السياسي الأميركي كي يكمل مسيره.
اتفقنا على اللقاء القريب في واشنطن، وحين زرتها مؤخراً، ومتأخراً عن موعدي المقرر بيومين، كان قد غادر إلى إسطنبول التي كان يعشقها، يوم واحد حال دون لقاء أخير، سبق "أبوصلاح"، ليس إلى بلاد الترك، ولكن إلى عالم أفضل.. إلى إله عادل، عنده يجتمع الخصوم، إلى اللقاء يا "أبوصلاح".. وسامحنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.