"أكتب لأتقدم نحوك، وأستمرّ في كتابة كل ما يعبر قلبي"..
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، اضطرتني الظروف إلى الرحيل مع عائلتي إلى الجنوب الفرنسي، وبالضبط مدينة مونبلييه، أنا سوزان بريسو، الشابة الفرنسية المنتمية لأسرة كاثوليكية، والتي لم يتجاوز عمرها آنذاك 20 عاماً.
جزئية بسيطة لم أكن أعلم أنها ستلقي حجراً في بركة حياتي الهادئة الرتيبة، كيف لا وقد مهّدت للقائي بمن اقترن اسمه باسمي إلى الأبد؟ التقيت به لأول مرة يوم 21 مايو 1915، وكنت برفقة والدتي، التي شاركتني الاستغراب من القدر الذي قادنا إلى محاورة شاب أعمى قادم من وراء البحار لمتابعة تعليمه في فرنسا، واسمه طه حسين.
تكررت زياراتي إليه في غرفته، أنا التي أعجبت في سري بطريقته في الكلام وسعة اطلاعه وقدرته على لفتlvmkhبدبد الانتباه إلى نباهته وسرعة بديهته رغم حرمانه من نعمة البصر، كنت أحدثه، وأقرأ على مسامعه فصولاً من كتب باللغة الفرنسية التي كان يبحث عن تقوية مستواه فيها، وأبحث له عن كتب بطريقة برايل، لتتقوى علاقتي به شيئاً فشيئاً.
عاد إلى مصر بشكل مؤقت ليحصل على إذن باستكمال دراسته في العاصمة الفرنسية باريس التي انتقلتُ إليها برفقة عائلتي، ولأننا كنا نملك غرفة شاغرة في بيتنا الجديد، فقد اقترحت أمي استضافته في المنزل، بعدما عاينت بنفسها الإهمال الذي يعيش فيه، رغم وجود أخ لم يكن مُعيناً له بالشكل المأمول.
لم يكن تعوده على العيش معنا سهلاً كما كنا نعتقد في البداية، فقد وجدنا أنفسنا أمام رجل صعب المراس، خجول جداً، يرفض تناول طعامه معنا، ويفضل الاحتفاظ ببعض الخصوصية التي فرضتها إعاقته البصرية، لكنني كنت مصممة على كسر ذلك السياج الذي حاول إحاطة نفسه به.
صرت أصحبه إلى الجامعة، وأقرأ له عندما يكون وحيداً، نتحدث بكثرة، وأواكب تقدمه المذهل في تعلم اللغة الفرنسية، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قال لي فيه: "اغفري لي، لا بد من أقول ذلك، فأنا أحبك".
كانت مفاجأتي عظيمة، ولأن الأنثى لا تكون أنثى إلا إذا أدهشت الجميع بردات فعلها الغريبة وغير المتوقعة، فقد صدمته بجواب قاسٍ: "ولكنني لا أحبك!"، رد بحزن شديد: "آه إنني أعرف ذلك جيداً وأعرف جيداً أنه مستحيل".
مضت أيام وأنا ألعن في سري تلك الطريقة التي صدمته بها، فكل ذرة في جسدي كانت تصرخ بحبه، لكنه ذلك المزاج الأنثوي العجيب الذي عجز الجميع عن فهمه، فكيف أفهمه أنا؟ قررت إنهاء هذه الحيرة بمصارحة أهلي: "أريد الزواج من هذا الشاب!".
نعم، ربما كان الأمر جنونا، لكنني عقدت العزم على اختيار المستقبل الذي يناسبني، حياة رائعة مع من اختاره قلبي، بمزيج من الفخر واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل في ربط حياتي بحياة شاب أطفأ القدر عينيه لكنه عوضه بأمل أضاء قلبه.
وكالعادة في مثل هذه القصص، رفض الجميع هذه الرغبة التي صممت على الوصول إليها مهما كلف الأمر، والأسباب معروفة بطبيعة الحال (العمى والأصول والديانة)، فاستعنت بعمّ لي يعمل قساً، قابل طه وتجول معه في حقول البيرينيه لمدة ساعتين، عاد بعدها ليقول لي بالحرف الواحد: "لا تخافي بصحبة هذا الرجل، يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع ذلك سبيلاً، إنه سيتجاوزك باستمرار!".
أعلمنا الجامعة، وأهله في الصعيد المصري، وأعلنا الخطوبة التي دامت عامين، قبل أن نتمّ الزواج مع حصول طه على الليسانس واتخاذه قرار إعداد رسالة الدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية.
تزوجنا يوم 9 أغسطس 1917، ورزقنا بابنتنا الأولى عام 1918، ثم سافرنا إلى مصر، التي بدأت منها معركتنا الحقيقية مع الحياة. زرنا مسقط رأس طه في الصعيد، وقد كنت متوجّسة من هذا اللقاء بسبب خوفي من طريقة تلقي أهله لموضوع زواجنا، إلا أن والده فاجأني بتناول ذراعي وأخذي في جولة بالبلدة.
أن يتنزه شيخ وقور معمم مع امرأة شابة سافرة أجنبية ومسيحية تعتمر القبعة، وأن تنصرف حماتي بكليتها لتأمين راحتي وراحة طفلتي الصغيرة، لفتات رائعة لم أكن لأنساها أبداً.. كان طه متحمساً بشدة لمهنته كأستاذ للتاريخ اليوناني والروماني ثم الأدب العربي، وكان يُسرّ إليّ دائماً بأنه يهدف إلى بث روح جديدة في التعليم. نعم، لقد اختار المسار الأصعب، في بلد محافظ لم يكن ليتقبل أفكاره التنويرية المجددة بسهولة.
تم تعيينه عميداً لكلية الآداب 3 مرات، لكنه قدم استقالته فيها جميعاً، أولاً للضغوط التي مارسها عليه الوفديون، وثانياً لرفضه سياسة منح الدكتوراه الفخرية لبعض الشخصيات، وثالثاً لخلافاته مع الحكومة. عمل طه أيضاً في الصحافة، ورئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضواً في عدد من المجامع الدولية، وعضواً في المجلس العالي للفنون والآداب.
كثيرة هي المعارك التي خاضها طه، لكن تبقى أبرزها قضية كتابه الأشهر "في الشعر الجاهلي" الذي جرى عليه اعتراض عدد من كبار علماء اللغة والأدب كمصطفى صادق الرافعي ومحمد لطفي جمعة وغيرهما، بل وجرى اتهامه من قبل عدد من علماء الأزهر بالإساءة المتعمدة للدين والقرآن، فبرأته المحكمة من التهم.
منحته عدة جامعات عالمية دكتوراه فخرية، ورشح عدة مرات لنيل جائزة نوبل، أرفع الجوائز العالمية، وألف عدة كتب مازالت حاملة لفكره ونظرته التنويرية للقضايا المصيرية لبلده ومنطقته بشكل عام.
هي 56 عاماً قضيتها بصحبة العميد، قبل أن يرحل هو عن الدنيا يوم الأحد 28 أكتوبر عام 1973، أعوام لخّصها بقوله: "بدونك أشعر أني أعمى حقاً، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي"، وكم كانت سعادتي عظيمة عندما قال للجميع بفخر مقولته الشهيرة: "هي المرأة التي نظرت بعينيها".
توفيت سوزان بريسو عام 1989، عن عمر يناهز 94 عاماً، ومباشرة بعد وفاة طه حسين عام 1973 قامت بتأليف كتاب حمل عنوان (Avec Toi) أو "معك" ضمنته أدق التفاصيل عن سيرتها الذاتية المشتركة مع العميد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.