في 17 سبتمبر/أيلول، توصَّل أردوغان إلى اتفاقٍ مع بوتين خلال اجتماع لهما في سوتشي، لإنشاء مناطق عازلة بين القوّات الحكوميّة وقوّات المعارضة، الذين يواجهون بعضهم البعض في محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، سعياً لتجنُّب وقوع هجوم وشيك يشنُّه النظامُ على المنطقة المتبقّية للمعارضة. ربما أرجأ هذا الاتفاقُ المواجهةَ العسكريّة في الوقت الحالي، لكنّه على الأرجح لن يؤدِّي إلى حلٍّ دائمٍ، إذ إنَّ نظام الرئيس بشار الأسد -المدعوم من روسيا وإيران- عازمٌ على إخضاع إدلب.
كما أنَّ خياراتِ تركيا في سوريا محدودةٌ، مع عزم الروس على مساعدة الأسد في فرض سيطرتِه على إدلب والمناطق المُحيطة بها. وبالإضافة إلى ذلك، فالانتشارُ واسعُ النطاق للقوات البحريّة الروسيّة مؤخّراً، قبالة الساحل السوريّ، والهجمات الجوّيّة على أجزاءٍ من إدلب في الأسابيع القليلة الماضية -الموجَّهة في ظاهرِها إلى المواقع الجهاديّة- يشهدان على عزم موسكو للقيام بذك.
كانت تركيا، وما زالت، تعمل على عدّة استراتيجيّات لتأجيل أمرٍ لا مفرَّ من وقوعه. مثال ذلك، تعزيز وجودها العسكريّ في نقاط المراقبة في إدلب، لإظهار تصميمها على منع سقوط المنطقة المُحاصَرة في قبضة قوّات الأسد. كما تحاوِل كذلك التخلّص من "هيئة تحرير الشام" -فرع من تنظيم القاعدة- التي كانت تعرَف سابقاً باسم "جبهة النصرة".
تسيطر "هيئة تحرير الشام" على حوالي ما يزيد على 60% من المحافظة، وتقوم القوات التركيّة بتعبئة فصائل المعارضة الإسلاميّة والوطنيّة في إدلب، التي تستاء من الوجود الطاغي للهيئة.
وتأمل أنقرة في القضاء على "هيئة تحرير الشام" من أجل استرضاء الروس الذين يعتبرونها منظّمةً إرهابيّة ويصمّمون على تدميرِها. يأمل الأتراك أن يكونَ ذلك مُقنِعاً للروس لئلّا يعيدوا إحياء حملة القصف، ولإيقافِ النظام السوريّ عن مهاجمة إدلب.
إلا أنّه نظراً لعلاقات أنقرة المتوتّرة مع واشنطن، وتزايُد علاقاتها مع موسكو في مجالَي السلاح والطاقة، فهي ليست في موقفٍ يَسمَح لها بمواجهة الروس علانيةً. إلى جانب ذلك، فقد فشلَ الاجتماعُ الثلاثيّ الذي عُقد في طهران، في 7 سبتمبر/أيلول، بين روسيا وتركيا وإيران، والذي ناقَشَ موضوع إدلب، في التوصُّل إلى توافقٍ في الآراء.
يشير ذلك إلى أنّ شنَّ هجومٍ كاملٍ على إدلب، على الرغم من تأخيره، عملاً باتفاق سوتشي، هو مسألة وقت. أما في اجتماع طهران، فقد دعا الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان إلى وقف إطلاق النار من جانب جميع الأطراف. ومع ذلك، أعلن الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين عدمَ جدوى ذلك، لأنه لن يشملَ "هيئة تحرير الشام" وغيرَها من الجماعات التي تعتبرها روسيا إرهابيّة. ومن جانبه أصرَّ الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني على وجوب استعادة الحكومة السوريّة سيطرتَها على كلِّ أراضيها، وعلى أنَّ هذا الأمرَ غيرُ قابلٍ للتفاوض.
وعليه، فإنّ اتفاق سوتشي ليس سوى إرجاءٍ مؤقت. ويبدو أنّ هذه الوقفة ترجع جزئيّاً إلى رغبة روسيا في عدم تحمّل المسؤوليّة المباشِرة عن الكارثة البشريّة، التي يُرجَّح أن تَلِي الهجومَ الذي سيشنّه النظامُ على إدلب. لكنّ نفوذَ روسيا على الأسد والحرس الثوريّ الإيرانيّ والميليشيات الشيعيّة المُدرَّبة مِن قِبَل إيران والمُتحالِفة مع النظام محدودٌ. ما يعني أنَّ هجومَ النظام على إدلب من المرجَّح أن يبدأ اليومَ قبل الغد، وسيكون على موسكو أن تَخضعَ للأمر بمجرَّدِ حدوثِه، إذ كان هذا ما حدَث في حلب والغوطة الشرقيّة، حيث تمَّ التوصُّل إلى اتفاقاتٍ مماثِلة، انهارَت عندما قام جيشُ الأسد -بدعمٍ من القوّات الإيرانيّة والميليشيات الشيعيّة المُتحالِفة- بإخراج مقاتِلي المعارضة ومؤيِّدِيهم المدنيّين مِن هاتَين المنطقتَين باستخدام القوة.
على الجانب الآخر، ليس من المُرجَّح أن يحترِمَ جهاديُّو "هيئة تحرير الشام" المتمرِّسين في القتال -الذين أُُجبِروا على هذا الموقف بسبب الحملة التركيّة ضدهم؛ وهي حملةٌ تطلَّبها اتفاقُ سوتشي- شروطَ الاتّفاق ويتخلّوا عن أسلحتهم بسهولة. سيُفضلون القتالَ على الاستسلام، بل قد يتمادون إلى الهجوم على قوات الأسد لإحراج تركيا وإفشال اتفاق سوتشي. وهكذا، ستوفّر أفعالُهم، على الأرجح، ذريعةً للنظام وحلفائه لاستئناف هجومٍ شاملٍ على إدلب.
إذا حدَث هذا، كما هو مُحتمَل، فإنَّ أنقرة ستكون أمام خيارَين كريهَين. الأول هو محاربة النظام وحلفائه دعماً لقوّات المعارضة مع محاولة مجابهة الدعم الجويّ الروسيّ للهجوم. مِن شأن هذا أن يتركَ العلاقاتِ التركيّة الروسيّة في وضعٍ مُزرٍ، في وقتٍ تمرّ فيه العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بتوتّرات شديدة.
كما أنه سيكون التزاماً ضخماً، إذ إنّ القدرات التركيّة العسكرية مُصابة بشدّة جرّاء عمليّات التطهير الهائلة في صفوف كبار الضبّاط، بعد الانقلاب الفاشل، في يوليو/تمّوز 2016. بالإضافة إلى أنّ مغامرةً عسكريّة بهذه الأبعاد ستُقوِّض على الأرجح شعبيّةَ أردوغان في وطنه، بمجرَّد أن تتصدَّرَ أعدادُ القتلى الأتراك عناوينَ الصحافة الدوليّة والمحلّيّة.
أمّا الخيارُ البديل أمام تركيا فهو أن تحاولَ إصلاح العلاقات مع نظام الأسد لإخراج نفسها من المستنقع السوريّ. قد يعني هذا تركَ فصائل "الجيش السوريّ الحرّ" المدعوم من تركيا لمصيره، وتجاهُل المعاناة الإنسانيّة التي ستحدُث على الأرجح في إدلب عقب الغزو الشامل. لن يحلَّ هذا أزمةَ اللاجئين، ولكن بإمكان تركيا أن تصرَّ على أنْ تلتزمَ كلٌّ من روسيا وإيران -في مقابل انسحابها- بإيواء النازِحين في "مناطق آمِنة" قريبة من الحدود التركيّة، مع عدم السماح لهم بدخول تركيا.
خطوة كهذه قد تُنقِذ علاقة تركيا مع روسيا، التي يُهدِّدُها بالانهيار الخلاف حول إدلب. في المقابل، يمكن أن تضمن روسيا وإيران عدمَ السماح للميليشيات السوريّة الكرديّة -وحدات حماية الشعب- بتوسيع منطقة النفوذ الكرديّة في سوريا. في الواقع، قد يترتَّب على مثل هذه الصفقة أن تُسلِّم "وحدات حماية الشعب" بعضَ الأراضي التي بحوزتِها على الحدود التركيّة إلى قوّات الأسد. وسيكون تقليلُ الأراضي الخاضعة لـ"وحدات حماية الشعب" والقيود المفروضة على الطموحات الكرديّة في صالح طهران؛ إذ إنّها تُعاني من صراعِها الكرديّ الخاصّ، الذي يبدو أنه يزداد حدة.
تشير المقالات المنشورة مؤخّراً في الصحافة التركية الموالية للحكومة إلى أنّ أنقرة تفكّر جدّياً في هذا الخيار. فقد كتب محمد بارلاس -وهو كاتب عمود مشهور، ومن أقوى مؤيّدي أردوغان- في مقالةٍ له "علينا أن نساهمَ في جهود نظام الأسد لإصلاح الدستور وعقد انتخابات… على تركيا أن تتجنَّب الدخولَ في مواجهةٍ مع روسيا بسبب إدلب. والطريقة المُثلى لذلك هي اتباع مسارٍ يدعم وحدة سوريا وشرعيّة إدارتها".
ينبغي على الولايات المتحدة ألّا تمنع تركيا من إبرام مثل هذه الصفقة مع روسيا وإيران ونظام الأسد. وذلك لأن واشنطن ليست في وضع يمكنها من خلاله مساعدة تركيا فعلياً في مواجهة عسكرية في سوريا، دون التورط في حرب كبيرة أخرى في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، من الواضح أن واشنطن تتحرك بالفعل نحو الاعتراف بشرعية نظام الأسد.
أما خطابها الجليّ المبكر في عامي 2012-2013 الذي أصرَّت فيه على رحيل نظام الأسد كشرطٍ مسبق لأي تسوية في سوريا، فقد تحول إلى قبول نظام الأسد على مضض. وفي وقتٍ مبكرٍ من شهر مارس/آذار عام 2017، صرَّح شون سبايسر، السكرتير الصحافي السابق للبيت الأبيض، بشكل قاطع قائلاً: "فيما يتعلق بالأسد، هناك واقع سياسي يجب علينا أن نقبله".
وفي الوقت ذاته، صرَّح وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريكس تيلرسون: "أعتقد أن شرعية الأسد طويلة الأمد سوف يقررها الشعب السوري".
وعلى الرغم من الخطاب العدائي الذي انتهجته إدارة ترمب في الآونة الأخيرة، فيما يتعلق بنظام الأسد، فإن هناك القليل من الأدلة التي تفيد بأن واشنطن تريد إزاحة الأسد بالقوة، أو منع نظامه من الاستيلاء على إدلب. على سبيل المثال، أفادت الأنباء بأن واشنطن بعثت برسالة إلى قادة الجيش السوري الحر، في شهر يونيو/حزيران، جاء فيها: "يجب ألَّا تبنوا قراراتكم على افتراض أو توقع تدخل عسكري من قبلنا".
في هذا السياق، يبدو أن أفضل الخيارات المتاحة أمام أنقرة هو الانسحاب من سوريا، عن طريق عقد تسوية مع روسيا وإيران، تتضمن بعض المبادرات لحفظ ماء الوجه. قد يبدو الأمر بمثابة هزيمة لأردوغان، لكنها قد تكون أفضل نتيجة يُمكن لتركيا الحصول عليها، بالنظر إلى التشكيل الحالي للقوى في سوريا وحولها.
كما سيُمثل انسحاب تركيا، إذا حدث، نهاية طموحاتها بتكوين إمبراطورية عثمانية جديدة، الأمر الذي حذَّر منه هذا الكاتب منذ عام 2012. كما يعني ذلك العودة إلى السياسة الكمالية (نسبةً إلى مصطفى كمال أتاتورك) التقليدية الأكثر عقلاً، التي تعني تورطاً أقل في الرمال الوعرة، ألا وهي العالم العربي. قد يتحول ذلك إلى نتيجة إيجابية طويلة المدى بالنسبة لتركيا.
من المرجح أن يكون للانسحاب التركي كما هو موضح أعلاه تأثيرات هامشية على علاقة أنقرة بواشنطن، إذ إن الولايات المتحدة نفسها ليست مستعدة ولا قادرة على التدخل عسكرياً في سوريا بأي طريقة رئيسية. لذا لا يمكن أن نتوقع من تركيا أن تقوم بهذا العمل الصعب، نظراً لشدة خطورة الآثار السلبية للمواجهات العسكرية في سوريا بالنسبة لتركيا.
علاوة على ذلك، هناك قضايا حيوية أخرى تفسد العلاقات التركية الأميركية، مثل الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية، وشراء تركيا لأنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400 S-400. لذلك، ليس من المرجح أن يغير الانسحاب التركي من إدلب مسارَ هذه العلاقة غير الثابتة والمتزعزعة بالفعل.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع The National Interest.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.