الرجل الحقيقي هو الرجل الأصلع

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/02 الساعة 16:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/02 الساعة 16:37 بتوقيت غرينتش

رحل والدي عن هذا العالم، كان يوماً مشمساً، استيقظ والدي صباحاً، مزاجه على غير العادة، كان جيداً، طباع والدي الحادة تغيَّرت، ربما بفعل المرض، تعب والدي من التردد على المستشفى، ومن الريجيم القاسي الذي أوصاه الطبيب باتباعه، والدي المحب للحياة انتفض ضد تعليمات الطبيب، واصل تناول أكلاته الدسمة المفضلة، وأصر على الوفاء لسيجارته الشقراء.

في ذاك اليوم، كان قلبي منقبضاً، جلست في غرفتي أتابع من النافدة عصفوراً صغيراً، سمعت والدي يناديني، قال لي إن رجلَين يسألان عني، فتحت الباب، وجدت زميلَين لي في الجامعة أتيا للبحث عني بعدما تغيبت عن الدراسة استعداداً للامتحانات.

منذ كنت طفلة لم يكن والدي يمانع في أن أستقبل أصدقاء لي ذكوراً في بيتنا، كان والدي يواجه احتجاجات إخوتي غير الأشقاء بأن "شامة بنتي راجل ونُص..".

لم يكن والدي متعلماً، لكنه كان رجلاً حداثياً، ربما أكثر حداثة من كثير من المتشبهين بالحداثيين الذين درسوا في أرقى المدارس ولم يُغير ذلك من النفاق في قلوبهم وعقولهم.

أبي كان قاسياً مع والدتي، ومع نسائه قبلها، وبعدها، لكن معنا -نحن أبناءه- ومعي أنا بالذات ابنته الوحيدة والصغرى كان حنوناً، وطيباً وكريماً.

"أبي كان رجلاً؛ لأنه كان أصلع".. أُخبر صديقتي بهذا، فتضحك، أقول لها: أبي كان يخبرني أن الرجل الحقيقي هو الرجل الأصلع، كان والدي يضع صورة له وهو شاب بين يديّ ويقول لي: "انظري يا ابنتي الشعر الذي كنت أملك قبل أن أفقده وأصبح أصلع"، ثم يضع يده على رأسه، ويقول لي: "أصبحت أصلع بسبب النساء والحياة.. الرجل الذي لم يفقد بعد شعره، لم تعركه الحياة بعد، لم يصبح بعد رجلاً قوياً"، أبتسم وأنا لا أكاد أفهم العلاقة بين الصلع والرجولة، يواصل أبي درسه عن الرجل الحقيقي، ويقول لي: "الرجل الذي فقد شعره رجل فهم الدنيا".

كان والدي يرى الرجل الحقيقي هو الذي فقد نصف شعره أو كله، كان يقول لي إنني يمكن أن أعرف قوة الرجل من شعره، إذا كان ذا شعر كثيف وفقده كله، أو نصفه، فهذا دليل على أن هذا الرجل خبر الحياة، وأن الحياة عركته حتى جعلت منه رجلاً.

لكن أمي كان لها رأي آخر فيمن يكون الرجل، قُبيل وفاة والدي أخبرتها أن محمد، الفتى الذي كان يدرس معي وأنا في الإعدادي، وكان يزورنا في البيت؛ ليراجع معي دروس الرياضيات التي أكرهها، يريد خطبتي بعد أن يتخرج ضابطاً في الجيش، لم أكن مقتنعة بمحمد رغم أنه كان فتى وسيماً، وطيباً، ومحترماً، وصديقاتي معجبات به ولا يعرفن لمَ لا أهتم له، كان عيب محمد أنه يكبرني بسنة واحدة فقط، لم أستسِغ كيف يكون زوجي لا يكبرني بسنوات، وليس سنة يتيمة.

في الصغر، يخبروننا نحن الفتيات بأنه علينا الاقتران برجال يكبروننا بسنوات كثيرة، وأن الرجل الذي يقاربنا في السن لم يخبر الحياة بعد؛ لذلك لم أكن أستغرب حين ينفصل أصدقائي عن صديقاتهم، كنت دوماً أفكر أن العيب ليس فيها أو فيه، بل في فارق السن الذي لم يكن كبيراً بينهما، وأنها إن كانت هي أصبحت مهيأة لتكون امرأة، فهو ليس مهيَّأ بعد ليكون رجلاً.

لكن أمي رفضت محمد ليس لأنه لا يكبرني إلا بسنة واحدة، بل رفضته لأنه "لن يتحمل ولا صفعة".

كانت أمي تحب محمد، كان يشبه أخي خالد رحمه الله، وكانت أم محمد تحبني كثيراً، وأخواته أيضاً، كل الشروط كانت متوافرة لنكون زوجين، لكني لم أرَ في محمد أكثر من أخ يشبه خالد، وصديق أتجول واياه في الحي، وزميل يراجع معي دروسي، وأمي لم ترَ في محمد أكثر من شبيه بأخي خالد ليس إلا، وأنه ليس رجلاً بعد ليتحمل مسؤولية الزواج، أو كما قالت هي بتعبيرها: "لن يتحمل ولا صفعة".

الصفع، وليس الصلع، كان مقياس أمي للرجل الحقيقي في نظرها، كانت أمي ترى الحياة قاسية تحتاج شخصاً يتحمل صفعاتها، كانت أمي ترى الزواج مسؤولية، تحتاج رجلاً اعتاد على صفعات الحياة وبات مستعداً لتحمل صفعات الزواج.

كانت أمي تختلف عن والدي في مقياسها للرجل، أمي ترى الصفع مقياساً، ووالدي يرى الصلع مقياساً، وأنا أرى فارق السن مقياساً؛ لذلك، لم أعد أعرف اليوم كيف أقيس الرجل الحقيقي، فقد اختلط عليَّ الأمر وأنا أسمع رجالاً يصرخون في الشارع بأعلى صوتهم: "أنا لست رجلاً".

في صغري، كان مجرد نعت رجل بأنه "ماشي راجل" كافية لأن يقيم مجزرة في الحي، في صغري، كان مجرد وصف رجل بأنه "شماتة" كافياً بأن يقيم الدنيا ولا يقعدها، في صغري، كنت أعرف مَن هو الرجل، أما اليوم فقد اختلطت عليَّ الأمور كما اختلطت على الكثيرين والكثيرات، ويؤلمني كما يؤلم الكثيرين وأنا أسمع النساء يصرخن "ما بقوا رجال"، فأتساءل: "شكون هو الراجل؟".

تشتكي صديقتي من طليقها الذي ربطتها به علاقة حب تكللت بزواج دام ست سنوات، تشتكي أنه في زواجهما "رمى عليها الحمل"، وباتت هي الرجل والمرأة في المنزل وخارج المنزل، تشتكي أنها هي من كانت تتكفل بالبيت ومصاريفه، وأنها كانت تفتقد لشعور الأنثى وهي معه، قالت لي إن تكفُّلها بمصاريف البيت لم يكن يثير غضبها بالقدر الذي كان يثيره حينما كانت تضطر لمواجهة الرجال في العمل، في إصلاح سيارتها، وبيتها، وفي الشارع، دون أن يحرك زوجها ساكناً، ويشعرها أنها امرأته، وأنه عليها يغار، ويخاف، كان يقول لها: "أنت امرأة وتجيدين التصرف"، كانت هي كذلك، لكن زوجها لم يكن يعي أن كل نساء العالم "يُجِدن التصرف"، لكن مع الرجال الآخرين، أما مع رجالهن فهن يعشقن أن يشعرن أنهن تحت كنفهم، وفي حمايتهم.

 

نعيش مأزق تحديد مفهوم الرجل والرجولة، ونعيش أكثر منه مأزق إعطاء نموذج لجيل صاعد فيمن يكون الرجل، فربما ونحن نقدم هذه النماذج قدوة لهذا الجيل الصاعد الضائع، نعالج مشاكل كثيرة، من قبيل "التحرش"، و "الابتزاز"، و "الكسل"، و "التوكل على الآخر"، ونقضي في المهد على جيل صاعد يقبل بمجالسة امرأة في سن والدته في مقهى أو حانة فقط من أجل مشروب لا يقدر على دفع ثمنه.

وإلى أن يعي هذا المجتمع أن الرجولة في خطر، سيبقى الرجل في نظري هو أبي الذي كان أصلع، والذي أوصاني أن الرجل هو الذي أخذت منه الحياة نصف أو كلَّ شعره نظير ما علَّمته من دروس قاسية جعلته رجلاً، وأبت إلا أن تطبع اعترافها برجولته على شكل رأس أصلع.

 

– هذا المقال منشور في جريدة الأخبار الصادرة بالمغرب​.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
شامة درشول
مستشارة في تطوير الإعلام
تحميل المزيد