في حضرة الحكاية “3” | هل يرقص قلبي الآن؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/02 الساعة 16:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/02 الساعة 16:53 بتوقيت غرينتش

 

سألت نفسي بغتة بعد انتهاء فقرة الغداء، إحساس جميل أن تسمع ضربات قلبك عالية تضاهي قرع الطبول، أن تحكي ما بداخلك بانسيابية.. أن تنسى أن هناك عالماً خارج حدود تلك المساحة الخضراء اليانعة، هكذا شعرت وأنا أحكي عن رأيي في المخيم في يومه الثاني "مر وقت طويل على إحساس كهذا.. لو لم يحدث هنا شيء آخر غير هذه المتعة فهذا يكفيني" دونت تلك الجملة على هاتفي سريعاً.

 

لم تسابق نبضاتي يومها غير تلك الخطوات المتسارعة ببداية فيلم ناجي العلي، الذي أشاهده كأحد مقرراتنا عن جودة البحث والكتابة للصورة، أسرني الفيلم منذ اللحظة الأولى، بدأ بلحظات الاغتيال، ذروة لا تستطيع معها إلا أن تسلم حواسك الخمس راضياً، فضلاً عن جمال حكاية ناجي العلي ذكرني بشخص عزيز يشبهه في ولعه بالرسم وإيمانه القوي بأفكاره وبداية معرفتي بالمقاوم الفلسطيني الشهير.

 

أحمد نصر الدين، أستاذي وصاحب الفضل في عملي بالصحافة، كان أول من عرفني على ناجي العلي، وسط اجتماع تحريري لموقع "عشرينات" -أول مكان صحافي أعمل فيه- تحدث أحمد المدير وقتها بحماسة عن ناجي، كأنه صديق طفولته، عرض أفكاراً مبدعة عن العلي أمسك ورقة ورسم حنظلة بسرعة وخفة فقد كان رساماً مبدعاً إضافة لولعه بالكتابة، تعلقت أعيننا به وهو يحكي بهمة، يشبه أبطال الأفلام عندما يبدأ في الحديث عن شيء يحبه، يجعله جميلاً لدرجة لا تقاومها.. عاتبت نفسي وقتها كيف لم أعرف ناجي من قبل، بحثت عنه وجمعت كثيراً مما كتب.

 

عُدْتُ لقاعة المشاهدة، تواصل الفيلم بإيقاع مثير وتدفقت معلومات وحكايات كثيرة عن فلسطين وغسان كنفاني وناجي العلي وياسر عرفات، يالهذا الإحساس الغريب! أشعر بأن أحمد نصر الدين هنا في هذه الغرفة، بكيت بحرقة وأنا أشاهد اسمه يظهر نهاية الفيلم كباحث رئيس! كيف لشخص أن يتقن فنه لدرجة تشعرك بوجوده عندما تشاهد العمل؟!

 

انتهى الفيلم، كان ممتعاً حقاً، تخيلت "نصرو" كما يحلو لنا أن نناديه يمشي بسرعته المعهودة، بخجل وقلق ينتظر آراءنا، لا لأنه يشك في عمله بل ليرى انتصار أفكاره بادياً على وجوهنا.

 

توقعت ردوده وهو يناقشنا، سيتذمر حتماً عندما يعلن أحدنا تكدس الأحداث في الفيلم وتسارعها، سيتعجب كيف لم نفهم هذا الزخم البحثي المقصود، سيسألنا عن آخر مرة قرأنا كتاباً، سيمرر السؤال ليعرف من نحن عبر ما نقرأه، سيرد بسخرية على بعضنا وبجدية على آخرين، سيخرج قداحته ويشعل سيجارته، سيخبره أستاذ أسعد أن التدخين ممنوع في القاعة، سيضحك ويسرق نفساً طويلاً ويتخلى عن سيجارته، سيسمع منا ببال طويل وينهي الحديث عندما نمل نحن الأسئلة فلن يمل هو من حكاية ناجي ولا من إخلاصه في عمله.. لماذا أتخيل كل هذا فلا نصر يستطيع الحضور ولا هناك مزيد من الوقت للأحلام؟!

 

تذكرت الليلة التي تلت موقعة الجمل، حتما لن ننساها جميعاً فهي الليلة التي قرر بعدها العودة لمصر ليشارك في الثورة، ظهر اليوم التالي وجدناه يهاتفنا" انتوا فين؟!"

كان الرد منطقياً: "في الميدان"!

قال بحزم: "انتوا بتشتغلوني أنا واقف أهو في نصّ الميدان ومش شايف حد فيكم، انتوا نايمين في بيوتكم وعاملين ثوار؟!".

 

توقعنا أنه يمازحنا فالمفترض أنه يعمل في دبي بشركة "هوت سبوت" ويحب عمله كثيراً، ليلة أمس هاتفنا واطمأن علينا فكيف يكون في الميدان اليوم!

أنهى المكالمة محدداً موقعه، توجهنا للمكان فرأيناه هناك فارداً ذراعيه مبتسماً تلك الابتسامة التي تملأ وجهه ولا ينافس جمالها سوى لمعان عينيه، عندما يغازل فكرة تتبختر في عقله لينقلها لنا في أبهى صورة، هو بشحمه ولحمه ترك العمل والعائلة ليشارك في الثورة.

 

كيف فعلها بهذه السرعة؟! هو أحمد نصر الدين يفعل ما يريد وقتما يريد عندما يؤمن بشيء لا يكذب قلبه.. لم يبدل ملابسه، توسطنا وبدأ يتحدث مع الناس.. كان نصرو أكثرنا حماساً، يتحرك بين الصفوف.. يطلق المبادرات، يقف بين الشباب يلقي عناوين للصحف، يتذمر من مواقف النخبة ويلعنهم مع كل سيجارة يشعلها، يؤمن بالانتصار أكثر منا جميعاً.

 

لم يحبطه خطاب المخلوع الأخير وأحب الحذاء المرفوع في وجه مبارك، يحب نصرو كل ما هو شعبوي، وبعد عدة أيام حدث ما تمنيناه جميعاً، رحل مبارك واحتفلنا ولعبنا وأسس هو مبادرة "ميداني" وأعلن بقاءه في مصر وطلب من "حنة" زوجته وحبيبة عمره ترك عملها والحضور فوراً مع أبنائه الثلاثة إلى مصر!

لا يضيع نصرو وقتاً، لا تمر دقيقة دون أن يعمل ويفكّر ويلقي عناوين مقالات وأفكار مبادراتٍ وأفلامٍ ويحتفظ بأوراق وأقلام في سيارته ليرسم وقتما يشاء، يعشق الحياة والكتابة والحرية، وجميعها أتت الآن طواعية، أخيراً أتت اللحظة التي اعتقل من أجلها أثناء دراسته الجامعية، فكيف لا يحتفل؟!

 

ولكن القدر لم يمهله طويلاً للاحتفال أو ربما أحبه الله لتبقى الثورة آخر ما يتذكره بوضوح.. بعد شهر ونصف فقط تعرض لحادث أدخله في غيبوبة امتدت شهوراً طويلة، كاد الحادث يودي بحياته ويوقف قلبه ولكنه نجا بأعجوبة فاقداً كل تلك الأشياء التي كانت مزهرة، ظل قلبه ينبض ولكن لم يعد كما كان، لم يعد قادراً على الحركة أو الكتابة أو الرسم أو حتى التذكر، فرت منه ذاكرته القريبة، كانت هذه أول شوكة في طريقنا الذي بدا مفروشاً بالورد قبل أيام، بل كان سكيناً حاداً.. توالت بعدها الوخزات.

لم أعرف من قبل أن ما جرى لأحمد يقهرني لهذه الدرجة، يجلس نصرو الآن في بلد خليجي ويقضي جل وقته على أريكة مريحة، كيف له أن يتحمل هذه المدة الطويلة من السكون؟!

وهو الذي كان ينافس النحلة في دورانها، لا يستطيع الجلوس ولا الوقوف ثابتاً، تثب روحه فوق كل ثوابت الحياة وقوانينها فتطوف بعيدة عن قوانينها ويترك بصمته على كل عمل بل على البشر أيضاً.

 

أتذكر ذلك اليوم الذي كلفني فيه بأول موضوع صحافي، كنت ما زلت في الجامعة، أنجزته فرحة ودخلت مكتبه واثقة، قرأه سريعاً وقال لي: "ارميه في الزبالة!"، تحجرت عياني وقتها وكتمت دموعي أمامه ليعطيني أول دروس المهنة، البحث الجيد أساس العمل الصحافي الحقيقي، وأخبرني بأنه علم أنني لم أنجزه جيداً لأنني لم أحب الفكرة، وهنا الدرس الثاني، كن مخلصاً للفكرة.. كم من الدروس علمها لي هذا الرجل وكم يستمر في تلقيني إياها؟

 

لاحظ مدربنا شرودي، سألني ماذا يحدث، أخبرته ما يدور بداخلي، سألني عن أحمد، طمأنته على حالته، أخبرني بأن أحمد نصر الدين هو الصحافي الأكثر مهنية الذي أجرى حواراً معه، وكان هذا سبب اختياره موظفاً في شركة "هوت سبوت "بعدها.

اقترحت أن نهاتفه، لم يتعرف أحمد على صوت الأستاذ أسعد في البداية، وهو مديره السابق وأكثر أهل المهنة محبة له، ولكنه ما لبث أن علا ترحيبه معبراً عن سعادته لسماع صوته، بدا أستاذنا مرتبكاً، فهو يقدر أحمد ويحزن كثيراً لما حل به، أنهى حديثه سريعاً وأعطاني الهاتف.

 

حاولت إخفاء حزني، فلم أستطع سألني نصرو أين ذهبت بهجتي؟! لديه موهبة عجيبة، يستطيع أن يقرأ قلبك، يتخطى ما هو عادي ليخبرك عن نفسك أكثر مما ينبغي وربما أكثر مما تعرف أنت. أُسمي أحمد نصر الدين أستاذي ويسمي نصرو أستاذ أسعد "المِعَلِمْ" ويقصد هذا المعنى الشعبي للصنايعي المتميز الذي يمتلك مهارة الفنان ويضيف عليه"الإنسان" وهي الصفة الأكثر تناسباً مع مدربنا.

 

لم أخبره من قبل بأنني أشعر بأنه أقرب أصدقائي لقلبي، أبكي أمامه من دون خجل وأحكي له كل شيء، يعرف عني أكثر مما ينبغي وأود لو يعود يوماً وردة يفيض رحيقها علينا جميعاً، أستاذاً وصديقاً وأخاً وملهماً.

 

انتهت مناقشة الفيلم، لم أشارك تقريباً، أوشك اليوم أن ينتهي وقلبي بات بعيداً عما شعرت به قبل ساعات، هاقد وقعت في فخ الوجع، لماذا تلاطمنا الدنيا هكذا؟! ولماذا لا تفعل؟! تناولت العشاء وبدا علي الاستسلام، لم أفهم معنى لهذا التحول إلا ظهر اليوم التالي..

"يُتبع"

 

 

 

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دعاء الشامي
صحفية مصرية
تحميل المزيد