ماذا لو كان الحجاب يُعرِّض المرأة للأذى؟ عن حقيقة فرضية الحجاب التي لا يتحدَّث عنها أحد!

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/02 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/02 الساعة 14:03 بتوقيت غرينتش
امرأة ترتدي الحجاب في مكان العمل /istock

يقول الفيلسوف والسيميائي الفرنسي رولان بارث (Roland Barthes): "إن اللباس منظومة إشارات"؛ فهو يتجاوز دوره الوظيفي الأول في حماية جسد الإنسان من أجواء البرد والحر معاً.

رمزية اللباس كبيرة جداً عند كل المجموعات البشرية، فقد ترمز إلى وظيفة معينة: مثلاً ملابس رجال الأمن، العمال، الأطباء، الراقصين، الرياضيين، التلاميذ.. وقد ترمز إلى هوية جماعية معينة، المظهر فيها عامل محدد: مثلاً سائقو الدراجات النارية (Les motards) ومجموعات حليقي الرؤوس Les skinheads..

وطبعاً الموضة بكل حمولاتها تدعم رمزيات الذوق والمعاصرة والتحيين والجودة وغيرها.

والدين باعتباره يخص الإنسان لا يخرج بدوره عن هذه الرمزيات والإشارات؛ فتجد لرهبان الكنيسة المسيحية وراهباتها لباساً خاصاً، وكذلك بالنسبة لحاخامات اليهود ورهبان البوذية ومعتنقي السيخية وغيرها؛ بل حتى جماعة "الرائليين-Les raéliens"، التي تعتمد في نماذجها التفسيرية على العلوم والتقنيات الحديثة، وتؤمن بالاستنساخ البشري وبحكم العباقرة La géniocratie، وأنّ نقل الوعي قناة للخلود، يرتدي أفرادها وروادها ألبسة خاصة بهم ومميزة لهم.

بدورها، بعض أدبيات الدين الإسلامي أثارت مسألة اللباس بالنسبة للرجال والنساء على السواء، لكن هل إشارات الإسلام للباس تدخل في إطار ما هو روحاني تعبدي أم ما يخص جانب تنظيم العلاقات الاجتماعية في الفضاء العام؟ أم لا تعدو كونها تفصيلاً شكلياً يدخل في إطار الشيفرات الثقافية؟

في قوله سبحانه وتعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً"، قوله سبحانه وتعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" يبين لنا أن الحكمة من هذا النوع من الإدناء في سياقه كانت لحماية المرأة المسلمة من الأذى، كل الأذى الذي يكون سببه هويتها الدينية؛ لأن الجانب التشريعي الإسلامي هو ما يمكن أن نصطلح عليه الجانب القانوني والحقوقي بلغة عصرنا والذي له دور السهر على حماية من هم تحت طائلة سلطته من أفراد وجماعات.

الآية لم تربط فعل إدناء الجلابيب، لا بالإيمان ولا بالتقوى ولا بالتزكية ولا بالفوز بالجنة ولا غيرها.

عُرْفُنا أن عبادات المرأة لا تكتمل إلا بارتدائها الحجاب إما في الصلاة أو الحج أو قراءة القرآن. ولكن، هل ارتداؤها الحجاب شرط صحة هذه العبادات؟

سوف نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال حُكمه في الصلاة، وإن استغرق ذلك في بعض التفاصيل التي قد تكون متجاوزة بالنسبة لسياقنا وواقعه كاعتبار المرأة كلها عورة مثلاً.

في كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد في فصل ستر العورة، نجد هذا: "اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة، وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة". انتهى كلامه.

ويزيد ابن رشد الحفيد أن سبب الخلاف ناتج عن اختلاف فهومهم لمفهوم قوله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ" (الأعراف: 31). وهل يأخذ أمر الزينة على الندب أو الوجوب؟

مَن رأى وجوبه فسّر الزينة بأنها ستر العورة، مرجِّحاً في ذلك سبب نزول الآية في امرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول (من الرجز):

اليوم يبدو بعضه أو كلّه ***** وما بدا منه فلا أحلّه

لِيُؤمَر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدها بألا يحج بعد ذلك العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

أما مَن حمله على الندب، فقد فهمه على أن المراد منه الزينة الظاهرة من الرداء وغيرها من زينة الملابس. والحجة في هذا ما جاء في الحديث من أن المسلمين في عهد النبوة، وأكيد للحالة الاجتماعية والاقتصادية، كان منهم رجال يصلون خلف النبي عليه الصلاة والسلام وهم عاقدو أُزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، وكان يطلب من النساء عدم رفع رؤوسهن حتى يستوي الرجال جلوساً؛ كي لا تتكشف عليهن عورات الرجال. ومنه ذم صفوف النساء الأولى (ومع كل هذا، لم تظهر السدة أو الحاجز كجدار للفصل والتمييز).

فلا خلاف في صلاة من لم يجد ما به يستر عورته. ومع ذلك ظل هناك خلاف في تحديد عورتَي كل من الرجل والمرأة على السواء، ثم عورات الحرائر والإماء من النساء.. (قد تكفي هذه الجزئية لقياس تقدمية ذهنيات فقهائنا المجتهدين مقارنة بالخط الذي رسمته بدايات الإسلام، وخصوصاً في مسألة الرق وتصورنا للرسم البياني الذي كان يجب أن يتمثله!).

فحد العورة من الرجل عند مالك والشافعي من السرة إلى الركبة وعند أبي حنيفة هما السوأتان فقط.

أما حد العورة في المرأة، فأغلب العلماء يرون أن بدنها كله عورة ما عدا الوجه والكفين، وزاد عليهما أبو حنيفة قدميها أيضاً، في حين ذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة.

ودائماً الخلاف في فهم وإدراك قوله تعالى: "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" ثم كشف الوجه في الحج. رغم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى في حديثه المرأة المُحْرمة بحج أو عمرة أن تلبس النقاب والقفازين، رواه البخاري. والحج خامس أركان الإسلام، حيث يأتي الحجاج الله في بيته رجالاً ونساء مختلطين، كما سوف يبعثنا الله -سبحانه وتعالى- يوم البعث أيضاً مختلطين.

الآية: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ" هي التي سوف يعتمدها العلماء لتحديد ما يجزئ من اللباس في الصلاة.

اتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في الصلاة هو درع وخمار؛ لما روي عن أم سلمة وعن عائشة رضي الله عنهما. العلماء يفتون بأن تعيد المرأة صلاتها إن صلّت مكشوفة في الوقت وبعده، ويرى مالك أنها تعيد في الوقت فقط، مع أن ستر العورة عنده من سنن الصلاة.

لكنهم أجازوا للخادم/الأَمة أن تصلي مكشوفة الرأس والقدمين، واستحب لها "عطاء" التغطية، كما أوجبها عليها الحسن البصري. المثير هنا هو اختلاف علماء الأمة وفقهائها في تحديد مفهوم الخطاب القرآني والحديث معاً، الموجَّه للجنس نفسه، هل يخص الأحرار والعبيد معاً؟!

سوف يختلف جمهور علماء الأمة في صلاة الرجل في ثوب الحرير أيضاً؛ بين من جوّزه له ومن لم يفعل ومن استحب له الإعادة في الوقت إن هو صلى به. وهنا يقول ابن رشد الحفيد: "وسبب اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقاً اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا؟ فمن ذهب إلى أنه شرط: قال إن الصلاة لا تجوز به، ومن ذهب إلى أنه يكون بلباسه مأثوماً والصلاة جائزة قال: ليس شرطاً في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط. وهذه المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة، والخلاف فيها مشهور".[1]

من كل هذا ورغم التمييز في تعاطي جمهور العلماء مع ستر عورتي الرجل والمرأة في الصلاة، يظل أنه مهما كان تصور عورة المرأة في مخاييل الفقهاء، فإن ستر العورة في الصلاة وصحة هذه الأخيرة يظلان مسألة خلافية. وإذا كان الحال هكذا مع ثاني أركان الإسلام فهل يجوز الفصل فيها في تفاصيل الحياة اليومية خارج أوقات العبادات؟

السؤال أيضاً: هو إذا كانت الآية "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ"، تخبرنا بأن لارتداء الحجاب هنا دوراً وظيفياً ومهمة منع الأذى عن المرأة المسلمة وحمايتها منه، كيف يمكن أن تتعامل المسلمة مع ارتداء الحجاب نفسه إذا كان هو بحد ذاته مصدراً لأذاها في سياقات أخرى؟

اللباس منظومة إشارات ثقافية وحضارية أيضاً، فمع بدايات الاستكشافات "العلمية" الأوروبية التي وطّأت لاحتلال أغلب شعوب العالم، كانت المجتمعات المكتشفة والمختلفة في طريقة عيشها والتي تتميز بالعري خاصة وانعدام ثقافة اللباس عندها، تُنعت بالمجتمعات البدائية اللامتحضرة حتى اتخذت القوى الاستعمارية من ذريعة تحضيرها سبيلاً لاستعمارها واستعبادها.

لكن، كل ما يتعلق بالإنسان وبالحياة البشرية يخضع لقاعدة وقوة التطور. فالقيم عموماً والقيم الحضارية بدورها لا تفلت من هذه القاعدة الحتمية، لذلك ومع حروب التحرير وتفكك المستعمرات عن مستعمريها سوف تعرف الدول الغربية بدورها حروباً داخلية ارتدادية في شكل ثورات أخلاقية وقيمية، وسوف يصير معها "العري" القيمة الرمز للحرية.

لذلك، أصبح ارتداء الحجاب في الفضاء الحضاري الغربي مقابلاً للحرية بالضرورة، خصوصاً إذا أضفنا إليه ثقل الموروث المسيحي الذي تخلصت منه المجتمعات الغربية والنساء الغربيات بصفة خاصة، حيث يقول الإنجيل: "على المرأة أن تحمل على رأسها إشارة السلطة التي تخضعها للرجل".[2]

القيمة العليا في المجتمعات الغربية الليبرالية هي الحرية، ومبدأ الحياد الذي يميز طريقة اشتغال الأنظمة الغربية عموماً يفترض أن يظل ارتداء الحجاب اختياراً وحرية شخصية، سواء لدواعٍ دينية محضة كواجبات، أو من باب امتداد لروحانية عبادات تريد المرأة المسلمة التي تعتقد أن عباداتها لا تكتمل إلا بارتدائه أن تعم مجالها العام.

شخصياً، أميل إلى حرية المرأة المسلمة في اختيار أن تمدد روحانياتها بين مجاليها الخاص والعام على السواء إن هي أرادت ذلك. ولا أومن بالمقاربة التي تفترض أن ارتداء الحجاب إنما هو طريقة الإسلام لتنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين والتي رافعتُها الفتنة. فالنص القرآني جاءنا بقصتين ترويان فتنة المرأة بالرجل، صاحبة موسى حين قالت : "يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين "، في شفافية ولياقة كبيرتين.

وقصة سيدنا يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز وصاحباتها، حيث وصلن مفتونات به إلى درجة التمثيل الذاتي، وليس هناك قصة أخرى في القرآن الكريم كله تصف الفتنة وصفاً أقوى من هذا لسيدات فتنهنّ جمال رجل نبي.

كذلك ومن المنطلق نفسه، فإن فرض ارتداء الحجاب على النساء والفتيات في المجتمعات المسلمة من طرف السلطة السياسية وسلطة الدولة أمر مرفوض؛ لأنه يَحرم المرأة المسلمة من الاختيار ويرمز إلى شمولية سياسية في صبغة دينية.

مقولة إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان والتي تضمنتها آلية الاجتهاد، تعني أن المسلم عندما يدخل على النص القرآني والسيرة النبوية قولاً وفعلاً مستنطقاً، فإن أسئلته مصوغة بحمولات إحداثيات عصره وسياقه الحضارية والثقافية، والأجوبة التي يستنبطها من النصوص توائم سياق السائل في اللحظة التي يسأل فيها والمكان الذي يسأل منه.

ولأن المسلمين لا يخرجون عن الطبيعة البشرية، فإن تطورهم وتطور منظوماتهم الأخلاقية أمر حتمي كذلك، سواء أدركوا أهميتها أم لم يدركوا ذلك.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
نعيمة عبدلاوي
كاتبة مغربية
تحميل المزيد