مع تنامي ظاهرة "التحرش الجنسي" نتيجة لضعف الوازع الديني والأخلاقي لدى فئة من الناس، بدأت الأصوات المنادية بالقضاء على تلك الظاهرة ترتفع، وبدأت المطالبة بتوقيع أقصى العقوبة على مرتكبي ذلك الفعل المشين تتزايد، وهو أمر ضروري للحفاظ على صحة المجتمعات، وفي المقابل تعزيز الوازع الديني وترغيب النساء في الاحتشام حفاظاً عليهن.
وقد وجدت هيئة الأمم المتحدة ذلك الأمر فرصة لطرح مصطلحها الجديد، وهو مصطلح "العنف الجنسي"، وبدأت في تكراره في مواثيقها الدولية بشكل كبير. وقد جعلت منه (إناءً عالي الجدران) يستوعب أموراً كثيرة قد لا تكون ذات علاقة حقيقية بـ"العنف الجنسي"، لكنها فرصة بالنسبة للأمم المتحدة لإدماج قضايا تشكل أولوية بالنسبة لها.
من تلك القضايا، ما عرفته المواثيق الدولية بـ"الاغتصاب الزوجي" و"تحرش الشريك".. والمقصود بها العلاقة الخاصة بين الزوجين، حيث نصت عليها عدة مواثيق، نذكر منها على سبيل المثال:
– ورد في وثيقة بكين: "يشمل العنف ضد المرأة ما يلي، على سبيل المثال لا الحصر: أعمال العنف البدني والجنسي والنفسي التي تحدث في الأسرة، بما في ذلك الضرب، والاعتداء الجنسي على الأطفال الإناث في الأسرة المعيشية، وأعمال العنف المتعلقة بالبائنة/المهر،واغتصاب الزوجة".[1]
كذلك نصت الوثيقة على: "يؤدي الافتقار إلى الوثائق والبحوث المتعلقة بالعنف الأسري، والتحرش الجنسي، وأعمال العنف ضد النساء والبنات سراً وعلناً، بما في ذلك في أماكن العمل.. إلى عرقلة الجهود المبذولة لتصميم استراتيجيات محددة للتدخل"[2].
– وينص تقرير منظمة الصحة العالمية العالمي عن العنف والصحة WORLD REPORT ON VIOLENCE AND HEALTH تحت عنوان (العنف الجنسي من الشريك الحميم Sexual violence by intimate partners) أنه: "أحياناً يحدث العنف الجنسي دون استخدام العنف البدني Sometimes, sexual violence occurs without physical violence".[3]
وهذه البنود لم تُعرِّف مصطلح "الاغتصاب الزوجي" في البداية بشكل واضح، وإنما تُرك استنتاج التعريف من المفهوم الشائع للاغتصاب. ثم دخلت وسائل الإعلام لتشكيل الخلفية الذهنية للمصطلح، وتفننت الدراما في عرض مشاهد تظهر الزوج كالوحش الكاسر الذي يطأ زوجته بكل قسوة وكأنه "يغتصبها"، وبهذا يثير مشاعر السخط والتقزز لدى العوام الذين تهيأوا لقبول قانون يجرم الأزواج بتهمة "الاغتصاب"، والمظلة هي "حماية المرأة من العنف الجنسي" أو "حماية المرأة من العنف الأسري".
ثم تطل علينا "منظمة الصحة العالمية" بالتعريف الحقيقي للمصطلح، تحت عنوان "العنف الجنسي من الشريك الحميم" أنه: "أحياناً يحدث العنف الجنسي دون استخدام العنف البدني"! أي أن مجرد "عدم الرغبة" كافٍ لاعتبار العلاقة الزوجية "اغتصاباً زوجياً" حتى وإن لم يصحب العلاقة أي عنف بدني!
ولم تقف الأمم المتحدة عن حد "الاغتصاب الزوجي" بل تعدته إلى "التحرش الجنسي". ومن المعروف أن "التحرش الجنسي" هو ما تتعرض له النساء والفتيات في أماكن العمل أو غيرها من الأماكن العامة من ممارسات شائنة يقوم بها أشخاص يفتقرون إلى الأخلاق والأدب العام. ولكن "وثيقة بكين" تعتبر "أماكن العمل" هي الاستثناء حيث نصَّت على "بما في ذلك في أماكن العمل".. وهذا هو أسلوب الأمم المتحدة في صياغة الوثائق: المطاطية، والتعميم، والنهايات المفتوحة، حتى يمكن تحميل البنود المزيد والمزيد من المضامين بمرور الوقت. والصياغة بهذا الشكل تجعل العلاقة بين الزوجين غير مستثناة من مصطلح "التحرش الجنسي".
– ويُعرِّف المفوض الدائم لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة "العنف الجنسي" بأنه: "هو شكل من أشكال العنف القائم على الجندر (النوع) gender based violence ويشمل أي فعل جنسي، أو محاولة الحصول على الفعل الجنسي، أو تعليقات جنسية أو مقدمات جنسية غير مرغوب فيها، أو أفعال المتاجرة (بالجنس)، أو بخلاف ذلك موجهاً ضد الحياة الجنسية لشخص ما باستخدام الإكراه من قبل أي شخص بغض النظر عن علاقتة بالضحية، في أي مكان".[4]
– ووفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية العالمي عن العنف والصحة WORLD REPORT ON VIOLENCE AND HEALTH: "يعرف العنف الجنسي: أي فعل جنسي، أو محاولة الحصول على الفعل الجنسي، أو تعليقات أو تقديمات جنسية غير مرغوب فيها، أو أفعال المتاجرة (بالجنس)، أو بخلاف ذلك موجهاً ضد الحياة الجنسية لشخص ما باستخدام الإكراه من قبل أي شخص بغض النظر عن العلاقة بالضحية، في أي مكان.. ولا تقتصر على المنزل والعمل"[5].
ويتضح من البند أن الزوج إذا قام بـ"تعليقات أو تقديمات جنسية" ولم تكن الزوجة لديها الرغبة في ذلك، يكون الزوج في هذه الحالة قد ارتكب "عنفاً جنسياً" تجاه بزوجته، وتكون هي "ضحية" لجريمة "عنف جنسي"، ويمكنها أن تشتكي زوجها بتهمة "الاعتداء الجنسي" .. فالنصّ يؤكد ذلك أياً كانت "علاقة الشخص بالضحية".. زوجاً كان أو غير ذلك.. المهم هو "رغبة المرأة" وليس نوعية العلاقة بينها وبين الرجل! وأضافت منظمة الصحة العالمية للتأكيد على نفس المعنى "لا تقتصر على المنزل والعمل" أي أن "المنزل" مشمول ضمن تلك "الجرائم"!
أما الآية الكريمة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، فلا اعتبار لها لدى الأمم المتحدة. بل على العكس.
– فإن لجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة: "تحث الدول على أن تدين بشدة جميع أشكال العنف ضد النساء والفتيات والامتناع عن التذرع بأي عرف أو تقاليد أو اعتبارات دينية للتهرب من التزاماتها فيما يتعلق بالقضاء على العنف على النحو المبين في إعلان القضاء على العنف ضد المرأة".[6]
فهو إنذار شديد اللهجة للحكومات التي تمتنع عن تنفيذ تعليمات الأمم المتحدة بمحاربة "العنف ضد المرأة"، بعد أن اتضح معنى ذلك المصطلح الحقيقي، متذرعة بتعارضه مع "الدين أو العرف أو التقاليد"! لأنها تعلم تمام العلم أن ما تطرحه تلك المواثيق يصطدم بقوة بالأديان والأعراف والتقاليد.
– أما تقرير منظمة الصحة العالمية العالمي عن العنف فيضيف إضافة أخرى إلى وعاء "العنف الجنسي"، حيث اعتبر من "أشكال وسياقات العنف الجنسي": "الزواج القسري، أو المعاشرة القسرية، بما فيها زواج الأطفال".[7]
أي أن الزواج تحت الـ18 أصبح يصنف على أنه "عنفاً جنسياً"! وبالطبع يتم إقرانه بممارسات تتسم بالعنف الحقيقي ولا تقبلها النفس السوية، مثل "الزواج القسري"، حتى يتم التنفير منها جميعا.
– وقد ورد في تقرير بان كيمون الأمين العام السابق للأمم المتحدة المقدم لمؤتمر (بكين+ 15)[8] عام 2010، بعنوان: (استعراض تنفيذ إعلان ومنهاج عمل بكين ونتائج الدورة الاستثنائية الثالثة والعشرين للجمعية العامة، ومدى إسهامها في تشكيل منظور جندري يكفل إنجاز الأهداف الإنمائية للألفية إنجازاً تاماً) ما يلي:
– "وتم في عدة بلدان، لاسيما في إفريقيا توسيع معنى الاغتصاب ليشمل نطاقاً أوسع من عناصر الجرم، حتى أن التعريفات تركز اليوم على عنصر الرضا (Consent) أكثر مما تركز على عنصر القوة المادية".[9]
– "ويخضع الاغتصاب في إطار الزواج للعقاب في عدد متزايد من الدول. بيد أن عقوبة الاغتصاب في إطار الزواج لا تزال في معظم البلدان أقل من عقوبة الاغتصاب الذي يرتكبه الأغراب".[10]
فالأمين العام السابق يمتدح الدول التي "وسعت معنى الاغتصاب" بحيث لم يعد استخدام "القوة الجسدية" شرطاً لاعتباره "اغتصاباً" بل مجرد عدم توافر "عنصر الرضا" كفيل باعتباره اغتصاباً. وفي نفس الوقت يستنكر في تقريره كون "عقوبة الاغتصاب في إطار الزواج لا تزال في معظم البلدان أقل من عقوبة الاغتصاب الذي يرتكبه الأغراب"، وبناء عليه، لابد من معاقبة الزوج الذي تشتكيه زوجته بأنه اغتصبها، بنفس العقوبة التي يستحقها مغتصب الأجنبية! والتي تصل في بعض البلاد إلى حد الإعدام!
– وعلى المستوى الدولي نجد الضغط لتحويل كل ما له علاقة بالعنف –وفقاً لتعريف المواثيق الدولية- إلى محكمة الجرائم الدولية (ICC)، حيث نصّ البند (5) من الاستنتاجات الصادرة عن الجلسة (57) للجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة عام (2013) على: "وتشير اللجنة إلى إدراج الجرائم الجنسانية (الجندرية) وجرائم العنف الجنسي في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن اعتراف المحاكم الجنائية الدولية المتخصصة بأن الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي يمكن أن يشكل جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو فعلا منشئا لجريمة تتعلق بالإبادة الجماعية أو التعذيب"[11].
ثم نصت تلك الاستنتاجات على: "إنهاء الإفلات من العقاب عن طريق ضمان محاسبة مرتكبي أخطر الجرائم ضد النساء والفتيات ومعاقبتهم بموجب القانون الوطني والدولي، وتأكيد ضرورة محاسبة المرتكبين المزعومين لتلك الجرائم بموجب القضاء الوطني أو، حيثما ينطبق ذلك، العدالة الدولية".[12]
وفي هذه النصوص خدعة، فنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، نصّ على أن: "الجرائم ضد الإنسانية CRIMES AGAINST HUMANITY تعني أياً من الأفعال التالية عند ارتكابها كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أي من السكان المدنيين، مع علم بالهجوم: الاغتصاب، أو الاسترقاق الجنسي، أو الدعارة القسرية، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي ذات الجاذبية المماثلة (أي ذات الثقل نفسه)".[13]
وهذا يعني أن "الاغتصاب الجماعي الممنهج المتعمد" هو الذي يعتبر "جريمة حرب" وفقاً لــ"نظام روما"، لكن "لجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة" تحاول تطويع النص وإدخال ما تطلق عليه "العنف الجنسي" و"العنف المبني على الجندر" على إطلاقه ضمن جرائم الحرب المذكورة في "نظام روما"، وطالما أن مصطلح "العنف الجنسي" أصبح يشمل العلاقة الزوجية –وفقاً لتعريف الأمم المتحدة- إذن تعتبر جميعها "جرائم حرب"!
هي حرب على الأسرة، من خلال إفساد العلاقة بين الزوجين، وإعطاء الزوجة الحق في اتهام الزوج بارتكاب "العنف الجنسي" ضدها، وهذا من شأنه إنهاء العلاقة الزوجية بشكل مخيف، لن يقف فقط عند حد الطلاق، وإنما سيتعداه إلى أمور أخرى كارثية.
فلا يمكن تصديق (الخوف الزائف) من الأمم المتحدة على نساء العالم من "العنف الجنسي"، في حين تكتفي بالمشاهدة وإبداء القلق حيال نساء ترتكب ضدهن أبشع جرائم القتل والاغتصاب في الكثير من المناطق التي تتعرض للحروب، مثل سوريا، وفلسطين، واليمن، والعراق، وبورما، وإفريقيا الوسطى، وغيرها، ثم تنتفض وتتوعد كل زوج يعاشر زوجته على غير رغبة منها بأشد العقاب.
– المصادر:
[1]- منهاج عمل بيكين، 1995، البند (113/أ).
[2]- المرجع السابق، البند 120.
[3]-WORLD REPORT ON VIOLENCE AND HEALTH, World Health Organization, CHAPTER 6, Sexual violence by intimate partners, Page 151, www.who.int/violence_injury_prevention/violence/global_campaign/…/chap6.pdf .
[4]- Sexual and gender-based violence in the context of transitional justice, United Nations Human Rights, Office of the High Commissioner, How do we define sexual and gender-based violence?, Page 1.
[5]-WORLD REPORT ON VIOLENCE AND HEALTH, World Health Organization, CHAPTER 6, How is sexual violence defined?, Page 149, www.who.int/violence_injury_prevention/violence/global_campaign/…/chap6.pdf .
[6]- الاستنتاجات المتفق عليها Agreed Conclusions ، الاجتماع 57 للجنة مركز المرأة، بعنوان: "القضاء على ومنع كل أشكال العنف ضد النساء والفتيات، مارس 2013، البند (14).
[7]-WORLD REPORT ON VIOLENCE AND HEALTH, World Health Organization, CHAPTER 6, How is sexual violence defined?, P. 149, www.who.int/violence_injury_prevention/violence/global_campaign/…/chap6.pdf ,
[8]- مؤتمر (بكين+15) عقد في الاجتماع الرابع والخمسين للجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة، 1-12 مارس 2010.
[9]- Report of the Secretary-General, Review of the implementation of the Beijing Declaration and Platform for Action, the outcomes of the twenty-third special session of the General Assembly and its contribution of the Millennium Development Goals, Commission on the Status of Women, (E/2010/4–E/CN.6/2010/2), 54th session, March 2010, Article 124, Page 38.
[10]-Ibid, Page 38.
[11]- الاستنتاجات المتفق عليها Agreed Conclusions ، الاجتماع 57 للجنة مركز المرأة، مرجع سابق، البند (5).
[12]- المرجع السابق، البند (أ/ن).
[13]- Article 7, CRIMES AGAINST HUMAN: 1. For the purpose of this Statute, "crime against humanity" means any of the following acts when committed as part of a widespread or systematic attack directed against any civilian population, with knowledge of the attack: (g) Rape, sexual slavery, enforced prostitution, forced pregnancy, enforced sterilization, or any other form of sexual violence of comparable gravity; http://treaties.un.org/doc/Treaties/1998/07/19980717%2006-33%20PM/Ch_XVIII_10p.pdf
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.