بمناسبة قصة تركي آل الشيخ وآمال ماهر، وقصة تركي مع بيراميدز والنادي الأهلي التي أثارت الجدل قبل مدة على السوشيال ميديا، لم يكن تركي الشخص الأول الذي يفعل ما فعله مع آمال ماهر.
تعالوا بنا نعود إلى الماضي قليلاً.
كلنا بالتأكيد نعرف جيداً أن عبدالحليم حافظ فنان كبير لا غبار عليه، نعم كان عصبي بعض الشيء، "طبال" ومُجامل، غيور كثيراً، لكنه بقي فناناً عظيماً جداً في تاريخ الفن المصري الرومانسي والوطني.
لكن للأسف، ليس كل فنان نبهر به ونضرب به المثل شخصاً كاملاً من بقية الجوانب، أو لا يستحق الهالة البيضاء التي نرسمها حوله، لكننا نضعه في مكانة خاصة فقط لأنه من زمن جميل وكل أغانيه جميلة كذلك.
سأحكي لكم قصة انتشرت في الماضي عن أغنية اسمها "يا مالكاً قلبي"، وهي واحدة من أشهر أغاني عبدالحليم حافظ، وأكثرها نجاحاً ورواجاً في فترة السبعينيات، وغالباً كلنا قد سمعناها ولو بالصدفة.
كان هناك شاعر عظيم جداً ومميز ومن رواد مدرسة أبوللو الشعرية درسناها في المرحلة الثانوية، الشاعر كان اسمه أحمد مخيمر، لو فتحت كتاب القراءة الذي كان يُدرس في المرحلة الثانوية، ستجد له قصيدة جميلة كنا نحفظها حتى نكتبها في امتحان اللغة العربية، القصيدة اسمها "وطني وصباي وأحلامي"، لكن كانت مشكلة هذا الشاعر أنه "مطبلاتي" ينافق ويجامل كثيراً، ولم يكن يكتب أغاني عن الورد والحب وهذه الأشياء الرومانسية.
المهم أنه كان هناك موشح أندلسي قديم يبدأ بمطلع "يا مالكاً قلبي"، وكان موجوداً بالفعل من أيام الأندلس، لا أعرف من قاله ومازال مجهول المصدر من وقتها، لكن من المحتمل أنه شاعر قديم في غرناطة، وكان قد قاله لفتاة جميلة مغربية يحبها على شاطئ النهر الأوروبي دون أن يعرفه أحد.
المهم أن الموشح أُعجب به الشاعر أحمد مخيمر، فأخذ مطلعه وأضاف عليه عدة أبيات ووضعهم في قصيدة طويلة سمّاها "أهلي على الدرب"، وأخذ القصيدة كلها ووضعها في ديوان اسمه "الغابة المنسية" ونشره، وكان هذا الكلام في فترة الخمسينيات.
بعدها جاء محمد الموجي الملحن، وكان يحب الموشحات للغاية، سمع القصيدة وأُعجب بها، فأخذ الكلمات ولحنها بطريقته هو، وأعطى الأغنية للفنانة نجاح سلام لتغنيها كاملة كما هي سنة 1963.
لكن رغم ذلك لم تنجح الأغنية وقتها وتوقف الناس عن سماعها.
ووقتها قام مخيمر بتسجيل الموشح في جمعية المؤلفين والملحنين سنة 1965. وكان اتحاد الكُتاب على علم بهذا بقيادة فكري أباظة أو ثروت أباظة، لا أتذكر تحديداً من منهما؟
أما الفنان عبدالحليم حافظ فقبل حفلة الربيع "شم النسيم" الخاصة به والتي كانت بعد هذه الأغنية بعشر سنين أي سنة 1973، رغب في غناء موشح وشعر قديم بالتحديد، خصوصاً أنه في هذا الوقت كان يتواجد أمير سعودي شاعر وكان يريد التعاون مع عبدالحليم حافظ ويفرض نفسه على الساحة الفنية وهو الأمير عبدالله الفيصل، كان الأمير يتحدث مع الموجي عن رغبته في المشاركة في عمل فني، فتذكر وقتها الموجي أنه قد قام بتلحين موشح جميل واسمه "يا مالكاً قلبي" لنجاح سلام لكن الأغنية لم تشتهر، فأشار على حليم وقتها أن يقوم بغنائها مرة ثانية.
سمع العندليب والأمير الأغنية ووافقا، لكن بشرط أن يغيروا مقاطع الأغنية ويكتبها الأمير الفيصل، وبالفعل قام الفيصل بكتابة أول مقطع فقط "قل لي إلى أين المسير" وتوقف بعدها ولم يستطع إكمال بقية المقاطع، فماذا فعلوا؟
قاموا بالبحث عن أحمد مخيمر حتى يقوم بإكمال باقي مقاطع الأغنية، لكن عبدالحليم طلب من طاهر أبوفاشا أنه يحضر له رقم أحمد مخيمر ليتواصل معه بنفسه، وبالفعل تواصل معه ووافق أحمد مخيمر، لكن أحمد مخيمر عندما بدأ العمل معهم وسمع المقطع الذي كتبه الأمير الفيصل طلب منهم أن يقوموا بحذفه لضعفه ونشاذه وسط باقي مقاطع الأغنية، لكن العندليب رفض لأنه الأمير و"طال عمره" سيغضب عليه.
وافق مخيمر خصوصاً عندما عاد لصديقه الشاعر كامل أمين وطلب نصيحته، فنصحه الشاعر بالإبقاء عليه طالما أنه مكتوب منذ البداية. وبالفعل كتب مخيمر 4 مقاطع للعندليب وقدمها له، لكن وافق فقط على آخر مقطعين في الأغنية وبالفعل تدرب على غنائها لحفلة قادمة.
يوم الحفلة في عيد الربيع سنة ١٩٧٣، جمع أحمد مخيمر عائلته ليشاهدوا ويسمعوا حفلة العندليب التي سيقدم فيها أغنيته، فقام العندليب بالتقديم للأغنية بأنها من كلمات الشاعر الأمير عبدالله الفيصل ولم يذكر اسم أحمد مخيمر نهائياً.
صُدم مخيمر وغضب مما حدث، لكن الحفلة بدأت واستمر العندليب في غناء الأغنية وشكر الأمير أكثر من مرة، وبعدها تُباع في الأسواق شرائط كاسيت عليها اسم عبدالله الفيصل والجرائد تحكي وتتحاكى وتكتب عن جمال شعر الأمير، دون ذكر كلمة واحدة عن مخيمر.
حاول مخيمر وسط غضبه الشديد أن يتواصل مع محمد الموجي، لكنه لم يرد عليه، تواصل مع عبدالحليم لم يجده في كل مرة لسبب مختلف، مرة في الحمام، أخرى مشغول، مرة ثانية مسافر، حتى رد عليه مرة من كثرة المكالمات وحاول عبدالحليم تغيير صوته، وينكر أنه هو لكن مخيمر قال له: "صوتك مميز وعرفتك"، فقام عبدالحليم بإغلاق المكالمة في وجهه.
جُن جنون مخيمر، ولم يعرف ماذا يفعل، بعدما سرقوا حقه بهذه الوقاحة، فذهب مع طاهر أبوفاشا إلى اتحاد الكتاب الذي كان أباظة رئيسه وقتها، وبالفعل تأكدوا من كلامه لما وجدوا الديوان المطبوع لديه في الاتحاد من 10 سنين ومعها قصيدته، ولم يكن هناك حل سوى رفع قضية على العندليب.
بالفعل بدأت القضية تأخذ دورتها في المحاكم وحاول العندليب حينها دفع أي تعويضات مالية لمخيمر حتى يصمت ويتوقف عن إحداث جلبة، وكان هذا كله بتوصية من الأمير لعبدالحليم. رفض مخيمر بشكل قاطع وطالب بحقه وكتابة اسمه على شرائط صوت الفن بدلاً من اسم الفيصل.
ظهر العندليب حينها في لقاء تلفزيوني ليقول فيه إن الشعر الأندلسي موجود في كتاب الأغاني ولا يخصّ أحداً.
غضب مخيمر أكثر من هذه التصريحات. وقال إن كتاب الأغاني كُتب قبل الأندلس بـ200 عاماً وإن المطلع فقط أندلسي وباقي الكلمات من تأليفه هو، لكن من يصدقه ويُكذب العندليب وقتها؟!
استغرقت القضية عدة سنوات وكانت تطالب بسحب الشرائط من السوق واستبدال اسم الأمير بأحمد مخيمر، وتقدير تعويض مناسب عن هذه السرق، سنوات استغرقتها القضية ومات فيها أطراف النزاع كلهم.
مات أحمد مخيمر سنة ١٩٧٨، وقد أكمده الهمّ وقهره شعور الظلم والسرقة التي حصلت له، ولحقته زوجته وماتت بعده بـ40 يوماً فقط، وتركا خلفهما أطفالاً فقراء يبحثون عن عمل ليؤمنوا لأنفسهم قوت يومهم.
ومات كذلك العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ وهو مُصرّ على رأيه أن الأغنية ملك الأمير.
ومات مالك شركة صوت الفن مجدي العمروسي.
ومات الأمير عبدالله الفيصل.
وتم الحكم في هذه القضية سنة ٢٠٠١ وكان الحكم لصالح أحمد مخيمر وطلبت المحكمة بحصر الشرائط المباعة وتعويض ورثة الشاعر بمبلغ تقديري عن الشرائط والحفلات، وكان الأمر قد أوكل للجنة من الخبراء لحصر المبلغ حسب المبيعات.
ومن عام ٢٠٠١ إلى ٢٠١٨ يعني هذه السنة التي نحن فيها، لجنة الخبراء لم تنتهِ من حصر الشرائط التي تم بيعها من سنة ١٩٧٣ إلى اليوم وكان الأمر مستحيلاً، ولا حتى انتهوا من تقدير حجم الساعات التي أُذيعت فيها الأغنية بالإذاعة والتلفزيون، وإجراءات في منتهى البطء المميت!
عام ٢٠٠١ اتصل محامي الأمير بورثة مخيمر، وطلب منهم أن يحلوا الأمر بأنفسهم ويخبروهم برقم التعويض المادي الذي يريدونه، فطلبوا ٤ ملايين جنيه، فأغلق المحامي المكالمة ولم يتصل بهم مرة ثانية.
وإلى يومنا هذا، عندما تُذاع الأغنية في أي مكان يُكتب عليها اسم عليها الأمير عبدالله الفيصل، ومازالت القضية في المحكمة كل هذه السنين لم تنتهِ، مات كل أطراف النزاع وكبر الورثة وبلغوا من العمر الكثير، وما زال اسم الأمير مكتوب على الأغنية كما هو، وعندما تفتح الأغنية من حفلة كاملة قديمة تجدهم يذكرون ويبدأون الحفلة باسم الأمير وضاع حق مخيمر من الزمن.
لا أحتاج إلى القول إن حرب المنع والإعلام طالت أحمد مخيمر بسبب سمو الأمير وإن اسم أحمد مخيمر لم يسمع عنه أحد بسبب مجاملات عبدالحليم حافظ للأمير.
يُذكر أن الأمير عبدالله الفيصل هو شاعر، أجبر شخصيات كثيرة مثل طه حسين على كتابة مقالة عن دوره في إثراء الشعر العربي في روزاليوسف، ولم يفعلها طه حسين أبداً مع أي أحد من قبل حتى لو كان مجرد مقال بالعامية، وكان الأمير الفيصل أيضاً أول رئيس شرفي للنادي الأهلي في عهد صالح سليم بسبب مساعداته للنادي آنذاك.
لو قررتم في أي وقت سماع أغنية "يا مالكاً قلبي" لا تغتروا بآهات العندليب، وتظنوا أو تعتقدوا أن رومانسيته هذه جعلته ملاكاً، صحيح أنه كان يغني الآهات بكل إحساس لكنه من داخله كان يعرف جيداً أنه سرق حق شاعر كبير على حساب أمير من عائلة مالكة، وتذكروا اسم مخيمر جيداً كلما سمعتم الأغنية.
تتغير الوجوه ويبقى التشابه في الأحداث مثيراً للشك والريبة.
– المصادر:
1- محسن ابنه يحكى: الشاعر أحمد مخيمر ضحية العندليب
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.