كانوا على وشك الوصول إلى سلام كامل ثم انتهى.. كيف عرقلت إسرائيل حلم استقلال الدولة الفلسطينية الذي سعت إليه أميركا؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/27 الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/27 الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش
Wally McNamee/Corbis, via Getty Images

احتفل الإسرائيليون والمصريون الأسبوع الماضي بالذكرى الأربعين للتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، التي أدت إلى أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية. ومن خلالها، ضمنت مصر استعادة شبه جزيرة سيناء التي فقدتها في حرب 1967، وقامت إسرائيل بإزالة تهديدها العسكري من الجنوب الغربي في حين اكتسبت اعترافاً حاسماً في الشرق الأوسط.

لا شك أن الأميركيين يفخرون ويعتزون بهذه الذكرى، مستذكرين بها دورهم في التوسّط بالمفاوضات التي أدت إلى إبرام الإتفاقية، التي لا تزال تعتبر الإنجاز الدبلوماسي البارز لرئاسة جيمي كارتر.

بيد أن هذه الذكرى بالنسبة للفلسطينيين هي تذكرة مؤلمة بحرمانهم السياسي من حقوقهم. فعلى الرغم من المجهود الحقيقي الذي بذلته إدارة كارتر لمعالجة وتحديد مصيرهم، فإنه عوضاً عن ذلك فقد عرقلت اتفاقية كامب ديفيد طموح وآمال الفلسطينيين لإقامة دولتهم، كما تركتهم تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، وجرّدتهم من حقوقهم الأساسية مثل حرية الحركة.

يُظهر استكشافي للسجلات التي رفعت عنها السرية مؤخراً في القدس ولندن وعبر الولايات المتحدة كيف أن السلام المصري الإسرائيلي جاء على حساب حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وذلك بسبب عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن إلى حد كبير. تلك كانت فرصة ضائعة مهّدت الطريق للجمود السياسي في الشرق الأوسط الذي نشهده اليوم.

لم يكن هدف كارتر مجرد سلام منفصل بين مصر وإسرائيل. لقد كان أول رئيس أميركي يدعو علناً إلى إقامة "وطن" فلسطيني. وبدأ في وقت مبكر من إدارته في وضع خطط لتحقيق حل شامل بين إسرائيل وجيرانها العرب.

وقد وضعت إدارته مخططاً سرياً يستند إلى انسحاب إسرائيل الإقليمي من الأراضي التي احتلتها عام 1967، فضلاً عن الفصل في وضع القدس ومعالجة حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين شُرّدوا عام 1948. وكان ذلك بمثابة تكرار مبكر لما سُمي لاحقاً "حل الدولتين". وعلى الرغم من أن الجزء الفلسطيني المُقتصر على "الوطن" ربما كان مرتبطاً بالأردن، وليس دولة مستقلة، فإن رؤية إدارة كارتر كان بإمكانها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.

ولتحقيق هذه الغاية، عارض كارتر بشدة التوسّع الإسرائيلي في الأراضي التي قد يُنشأ فيها وطنٌ فلسطيني، ودعا إلى إجراء محادثات مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تتحرك في ذلك الوقت من الكفاح المسلح نحو المشاركة الدبلوماسية.

أغضبت مواقف كارتر إسرائيل والعديد من أكثر مؤيديها قوة في الولايات المتحدة. لكن هذا النهج أثار تعاطف واهتمام القادة العرب، خاصةً الرئيس المصري آنذاك أنور السادات، الذي كان داعياً بارزاً ومدافعاً عن الفلسطينيين، والذي أراد استرجاع الأراضي المصرية وتحويل تحالف بلاده من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة.

وفي حين كان السادات حريصاً في البداية على دعم خطط كارتر لإحياء مؤتمر سلام إقليمي، إلا أن استياءه ونفاد صبره من الانقسامات العربية وأساليب التفاوض الإسرائيلية أدى إلى قراره أحادي الطرف بزيارة القدس عام 1977 في محاولة منه لإنعاش المحادثات. وبفعله هذا انشق عن العالم العربي الأوسع، وأطلق عن غير قصد إمكانية تحقيق سلام ثنائي أضيق.

في الوقت الذي بدا فيه الشرق الأوسط مستعداً أخيراً للتوصّل إلى تسوية إقليمية، ووضع نهاية لثلاثة عقود من الحرب، وتسوية قضية مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، كانت لدى بيغن، الزعيم اليميني الجديد حينها لإسرائيل، خططٌ أخرى. وبالتوازي، عرقل الزعيمان تحقيق تقدم كبير مرتكز على خطة واشنطن.

كان لدى إسرائيل أفكارها الخاصة

كان بيغن قد شدد منذ فترة طويلة على استحالة قيام دولة فلسطينية. وكانت وجهات نظره حول الأهمية الكبرى لمنطقة "يهودا والسامرة" -المصطلح التوراتي لأراضي الضفة الغربية- للشعب اليهودي معروفة جيداً. وبعد أن انتخب في مايو/أيار 1977، ليصبح أول رئيس وزراء من حزب الليكود اليميني، أعلن أنه سوف "يشجع المستوطنات، الريفية والحضرية على حد سواء، على أرض الوطن".

كانت سيناء قصة أخرى، إذ استولت إسرائيل على شبه جزيرة سيناء من مصر عام 1967، لكن على الرغم من أن المنطقة كانت منطقة عازلة استراتيجية، فإنها لم تحتل أي جاذبية دينية للإسرائيليين كالضفة الغربية. لذا أشار بيغن في وقت مبكر إلى استعداد واضح لسحب قواته فعلياً من سيناء كجزء من اتفاقية سلام مع مصر. ولكن لم تكن الضفة الغربية وقطاع غزة جزءاً من مفاوضاته.

وقد تم توضيح "مبادئ السلام" هذه لكارتر خلال الزيارة الأولى التي قام بها بيغن إلى البيت الأبيض. وقال بيغن، وفقاً للسجلات الإسرائيلية التي رفعت عنها السرية حديثاً: "فيما يتعلق بيهودا والسامرة وقطاع غزة، فإن موقفنا هو أننا لن نضعها تحت أي قاعدة أو سيادة أجنبية".

لقد اعتقدت الحكومة الأميركية أنها تستطيع التوفيق بين وجهات النظر المتضاربة هذه حول الأرض، من خلال التمييز بين الموقف الإسرائيلي الصريح والنتيجة النهائية للمفاوضات مع السادات في أواخر عامي 1977 و 1978. ولم تعتمد على الزعيم المصري الذي أضعف المطالب الفلسطينية في العملية.

طرح رئيس الوزراء مناحيم بيغن بدوره أفكاره الخاصة لمعالجة هذا الاختلاف في وجهات النظر، والتي تجسّدت على نطاق واسع في "الحكم الذاتي للعرب الفلسطينيين، وسكان منطقة يهودا والسامرة -مصطلح إسرائيلي رسمي يستخدم للإشارة إلى الضفة الغربية- وقطاع غزة". وبدلاً من إتاحة الفرصة لتقرير المصير الجماعي، ستحتفظ إسرائيل بالأراضي التي فرضت سيطرتها عليها في عام 1967، بينما وعدت بإقامة سلطة محلية للمسؤولين العرب المنتخبين، بهدف توجيه القرارات في المجالات المختلفة مثل التجارة والتعليم والصحة والنقل. وقد صيغ عرض بيغن للحكم الذاتي بلغة تتسم بالخير في جوهره، بيد أنه استند إلى إنكار حق تقرير المصير للفلسطينيين.

جرت مفاوضات بين كارتر، والسادات وبيغن خلال قمة استمرت لمدة 13 يوماً، واختتمت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في السابع عشر من شهر سبتمبر/أيلول عام 1978. وعلى الرغم من أن المذكرات التحضيرية التي صاغها الأميركيون قد أرست بوضوح الرغبة في الانسحاب الإقليمي الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة والتوقف طواعيةً عن بناء المستوطنات، فقد انتهت المفاوضات إلى إقرار رؤية بيغن الضيقة لاتفاقية سلام ركزت على مصر وحدها.

توضح المصادر التي أُزيح الستار عن سريتها مؤخراً كيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي فصل القضية الفلسطينية عن الإجراءات العامة، من خلال حِنْكة سياسية رائعة، ودون معارضة موضوعية من السادات، وفي ظل فهم ضمني من كارتر إلى أن ذلك سيفضي إلى القليل من النتائج: فقد استعرض الوفد الإسرائيلي التباسات قانونية متعمدة بشأن القضية الفلسطينية للحد من مدى تجميد الاستيطان. كما استُبعدت أيضاً أي إشارة إلى حق تقرير المصير؛ وكذلك لم يُطبق قرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة في عام 1967، على "جميع جبهات الصراع"؛ ولم يتم التراجع عن المطالبة الإسرائيلية بالسيادة في القدس.

تجلت بصمة إسرائيل بكل وضوح في النصّ النهائي للاتفاق، فقد أُحيلت الشواغل المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى اتفاق آخر منفصل، يتمثل في التصور الذي تمّ التوصل إليه لإقرار "السلام الدائم في الشرق الأوسط". واستناداً إلى خطة الحكم الذاتي التي وضعها بيغن، فقد قدمت الاتفاقية ترتيبات انتقالية بشأن الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي اتسم بالغموض فيما يتعلق بالسيطرة الإقليمية أو السياسية. وقد مهد الاتفاق الثاني الذي تمثل في "عقد معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل" الطريق لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي عقدت بعد ستة أشهر.

لكن السعي للتوصل إلى اتفاق سلام مع مصر صار وسيلة لتجنب السلام مع الفلسطينيين.

أدرك الكثيرون في ذلك الوقت أن قمة كامب ديفيد ستسمح لحكومة بيغن بتشديد قبضة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة، وأدانوا بكل قسوة التنازلات التي قدمها السادات. وقاطع محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية المصري، مراسم التوقيع واستقال من منصبه. كما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية "رفضها الكامل" للاتفاقية بعد توقيعها مباشرةً، ووجّهت إنذاراً ينطوي على احتمال وجود "مؤامرة مفتوحة" ضد حقوق الفلسطينيين. ووصف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فيما بعد فكرة الحكم الذاتي بأنها "ليست أكثر من إدارة المجاري".

بعد مرور فترة وجيزة على تصديق اتفاقية معاهدة السلام في عام 1979، بدأت "محادثات الحكم الذاتي" بين ممثلي مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، ظاهرياً للتعامل مع مسألة الحكم الذاتي الفلسطيني. بيد أنه تم التخلي عن هذه المناقشات عشية حرب لبنان عام 1982، لكنها أصبحت الأساس لحكم ذاتي محدود للفلسطينيين. وكانت بصماتها واضحة في نهاية المطاف، في ظهور السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو عام 1993. وقوّضت بشدة إمكانية السيادة الفلسطينية من خلال ربط الحقوق السياسية الفلسطينية مع تعريف عملي ضيق وغير إقليمي للحكم الذاتي، جنباً إلى جنب مع التوسع الاستيطاني الإسرائيلي المستمر.

بعد مرور 40 عاماً

أصيب كارتر بخيبة أمل شديدة إزاء فشل جهد أوسع نطاقاً على الجبهة الفلسطينية، بعد أن ضحى بقدر كبير من رأس المال السياسي في الشرق الأوسط. وقال خلال لقائه الأخير مع السفير الإسرائيلي في واشنطن: "لا أرى كيف يمكنهم الاستمرار كقوة احتلال تحرم الفلسطينيين من حقوق الإنسان الأساسية، ولا أرى كيف يمكنهم استيعاب ثلاثة ملايين من العرب في إسرائيل دون السماح لليهود بأن يصبحوا أقلية في بلادهم". وأضاف: "لقد أبدى بيغن شجاعة في التخلي عن سيناء. لكنه فعل ذلك لكي يُبقي على احتلال الضفة الغربية".

وبعد مرور أربعة عقود، لا تزال كلمات كارتر تتسم بالتبصر. إذ إن السعي الفلسطيني من أجل تقرير المصير لا يزال غير محقق. وتمهيداً للطريق أمام معاهدة أوسلو، مكَّنت اتفاقية كامب ديفيد تحقيقَ رؤية إسرائيلية تُمكّن السلطة الفلسطينية ذات السيادة غير الكاملة من المساعدة في إدارة الاحتلال.

من دون وجود دولة مستقلة تضم الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، لا يزال الفلسطينيون يواجهون جهوداً متجددة من جانب القادة الإسرائيليين لتقويض إمكانية وجود سيادة حقيقية. وقد أيد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجود "دولة ناقصة". وقد دعا وزير التعليم الإسرائيلي والسياسي المؤثر، نفتالي بينيت، إلى "حكم ذاتي واسع الصلاحيات" في الضفة الغربية، معرِّفاً "الحكم الذاتي" بتركيزٍ على السيطرة المحدودة على "المياه والصرف الصحي والكهرباء والبنية التحتية وما إلى ذلك".

تتجلى هذه المرة رؤية مناحم بيغن واضحةً من خلال الدعم النشط من الحكومة الأميركية. ففي الوقت الذي نحتفل فيه بذكرى حدوث طفرة رئيسية أدت إلى عقد اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، فإننا قد ننظر بناء على ذلك إلى إرث معاهدة كامب ديفيد المثير للقلق بشدة: والذي يتمثل في خطوة حاسمة في استمرار انعدام الجنسية الفلسطينية.

– هذه المدونة مترجمة عن صحيفة The New York Times الأميركية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سيث أنزيسكا
محاضر في العلاقات اليهودية الإسلامية في جامعة لندن
تحميل المزيد