ما الذي يجعل المرء يستحضر الموتى بعد سنوات من رحيلهم؟ ولِم يستحضر ذكرياته معهم من بين آلاف الذكريات في الماضي؟ أليسوا موتى والانشغال بالحي أولى من الميت؟ أليس التفكير في الماضي مدعاة لآلامٍ، هو في غنى عنها؟ أسئلة محقة، لكن الإجابة عنها تبدو مرهقة كثيراً، في زمن رديء يمنح الحياة للذكرى والذكريات.
جدتي "حُسْن" -رحمها الله- غادرت عالمنا المجنون هذا قبل 7 سنوات، بعد معاناة قصيرة مع المرض.. صبيحة الجمعة 29 يوليو/تموز 2011، ارتقت الروح إلى الأعلى، وحظي الجسد المنهك بتشييع مهيب إلى تحت التراب.. عقب صلاة الجمعة وُوريت الثرى، تأملتها كثيراً قبل أن يُهيلوا التراب عليها، كنت أدرك أنها النظرة الأخيرة، أحسست بلحظة انكسار لم أعشها من قبلُ، وتحجّرت الدموع في عينيَّ.
كان من الصعب أن يبلغني مؤذن مسجد القرية المجاورة خبراً مأساوياً كهذا وهو ينظر في وجهي دون اكتراث، ربما لو كان يعلم وقع الخبر على نفسي المتهالكة لما تجرّأ على الكلام وإبلاغي تلك البرودة، التي شعرت من خلالها بألا صلة قرابة تربطني بهذه التي تُوفيت وأهلها يبحثون عن وسيلة تقلُّها من المدينة إلى مسقط رأسها الريفي لتدفن فيه.
قبل أن تموت جدتي بسنوات وربما بأشهر، كنت أحدث نفسي عن الموت، وأحسب ردود فعلي تجاه موت محتمل قد يطول أسرتي وأقاربي، جدتي كبيرة في السن وقد تموت في أي لحظة، هكذا تحدثني نفسي أو أحدّثها، فأجد صعوبة بالغة في تصور هذا المشهد؛ تتحجر الدموع في عينيَّ فأتوقف عن هذه الوساوس، لكن عندما أصبح هذا المشهد حقيقياً لم أجد وقتاً للبكاء؛ نظراً إلى انشغالي بتجهيزات الدفن، ولأن الله منحني من الصبر ما جعلني متماسكاً وأنا أبلّغ النبأ أقاربها، لكنني أعترف بأنني أمرُّ بحالات ضعف فتنزل الدموع من تلقاء نفسها عند تذكُّر تلك اللحظات العصيبة قبل سنوات من الآن.
قبل أن تغادر جدتي الريف إلى المدينة لتلقي العلاج، كنت قد عدت من المدينة بعد 3 أسابيع، أنهيت فيها امتحانات الثانوية العامة، وكنت أتمنى أن تحتفي جدتي بنجاحي، خاصة أنها أدت دوراً كبيراً في مؤازرتي خلال السنة الدراسية الأخيرة، لكن الموت كان أسبق من إعلان النتيجة بأشهر، غادرت المدرسة أخيراً إلى عالم جديدٍ، الحاضرُ والغائبُ فيه كان جدتي.
أن تكون لك جدّة فأنت محظوظ كثيراً؛ تتحسس شعرك في صباك حتى يغلبك النعاس فتنام، وتمنحك المال والحلوى كلما تيسَّر لها ذلك، وتسمح لك بمرافقتها في رحلاتها المختلفة وتمدحك أمام نساء الحي فتبدو زاهياً، وتدلّلك كثيراً أمام أقرانك من الصبيان، ولاتألو جهداً في مداراتك حتى تكف عن البكاء كلما بدر منك تذمر أو مشاكسة غير مبررة.
أن تكون لك جدة فأنت محظوظ أكثر كلما كبرت وشببتَ عن الطوق، ستعرفها أُمّاً ثانية إن كان لك أُمّ، وأماً وحيدة إن كنت يتيماً، ستسمع دقّات الباب وهي توقظك لتصلي الفجر، تحمل في يدها اليمنى سراج الزيت وفي الأخرى إبريقاً معدنياً مملؤاً بالماء.. ومواقف أخرى كثيرة، ربما لا تتذكرها بفعل تعاقُب الليل والنهار وصنيعهما في ذاكرتك المثخنة بمواقف الزمن الحاضر الرديء.
في قرية ريفية تحلم بالكهرباء، وتعيش عصر الفوانيس المعدنية وأسرجة الزيت، توطدت علاقتي بجدتي "حُسْن" كثيراً، مع كل دقيقة تمر في قطار الوقت، ومع كل أمسية ريفية يرافقها ضوء القمر وأحاديث الحياة اليومية المحفوفة بالمتاعب، ومع كل صوت آذان يتردد صداه في التلال الصغيرة المحيطة بالمكان.. لقد كانت علاقة غير قابلة للقياس بالمقاييس الدنيوية، ومتجاوِزة التفسير البشري الصرف.
الراديو كان وسيلة أساسية للمعرفة ومتابعة أحوال العالم، في منطقتي الريفية قبل أن تأتي الكهرباء، وأفضل الأوقات للاستماع كان وقت المساء؛ لكون المحطات الإذاعية تبث بوضوح دون تداخل في هذا الوقت، وما زلت أتذكر كيف أن جدتي كانت تُحضر مذياع جدي كلما طلبته للاستماع، وفي أحيان أخرى تنبهني إلى أخذه، ولسان حالها: ربما نسي هذا الفتى أن يطلب الراديو ويحتاج إلى تذكير!
كانت جدتي لطيفة جداً، وهناك الكثير من المواقف التي تعكس ذلك، وما زلت أتذكر أنها كانت تخوض نقاشات مع جدي في أثناء الثورات العربية؛ إذ كان جدي يرى في الثورة مشروعاً تخريبياً وفق مبرراته التي تخلى عنها لاحقاً، في حين كانت جدتي على النقيض تماماً، وكثيراً ما كانت تتألم بشدة عند سماعها خبر مقتل متظاهرين، ثم لا تلبث أن ترفع يدها بالدعاء على الظالمين بالهلاك.
رحلت جدتي في لحظة غير متوقعة، مازلت حزيناً إلى الآن كلما سافرت بي الذكريات إلى زمن ما قبل موتها، رحلت جدتي ولم يكن في قدرها أن تعيش مصرع القذافي وصالح اللذين كانا عرضة لدعائها دائماً. أما جدي، فإنه لما بلغته وفاة رفيقة عمره، بدا منكسراً ومتماسكاً في آن وهو يهوّن على نفسه صعوبة الموقف، متأسياً بمآسٍ دفع ثمنها ملايين المسلمين في منطقتنا العربية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.