كيف شوّهت السينما سمعة المصابين بالأمراض العقلية؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/24 الساعة 14:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/24 الساعة 14:04 بتوقيت غرينتش

لا تحتاج أن تكون "مجنوناً" لتظهر في الأفلام، لكن قدمت صناعة السينما بشكل عام رؤية غير جديرة بالثقة عن الصحة العقلية. لا تكمن المسألة في تجنب السينما الخوض في مواضيع "محظورة"، بل أنها تميل إلى التأرجح بشدة من العاطفية إلى النزعة الحسية. هذا يجعل وجهة نظر فيلم "من الجنون أن تكون طبيعياً Mad to Be Normal" تبدو جديدة بشكل مثير. وهو عبارة عن سيرة ذاتية للطبيب النفسي الإسكتلندي رونالد ديفيد لينغ خلال ستينيات القرن الماضي والمتاح فقط من خلال خدمة الفيديو حسب الطلب. جسد ديفيد تينانت شخصية لينغ: وهو رجل ذو شخصية معقدة وجذابة، اكتسب شهرة بفضل علاجه الراديكالي المتعاطف مع المرض العقلي.

 

كان لينغ في الحقيقة شخص جدير بالاقتباس منه (وصف الجنون بأنه "تعديل عقلاني محكم لعالم مجنون") وصاحب ثقافة مضادة (قال إن المجتمع التقليدي كان "يدفع أطفالنا نحو الجنون"، وأوصى مرضاه البالغين بتناول أقراص الهلوسة LSD) . كما صارع أيضاً الجوانب الشيطانية الشخصية بما في ذلك الإدمان على الكحول والاكتئاب. شارك تينانت في العمل بجانب إليزابيث موس وجابرييل بيرن ومايكل غامبون. ومع ذلك، لاتزال تحاول السينما السائدة تجسيد شخصية البطل الذي يعاني من مرض عقلي؛ حمل الإعلان الترويجي لفيلم "من الجنون أن تكون طبيعياً Mad to Be Normal" جملة: "بالنسبة للبعض، كان مريضاً عقلياً.. وبالنسبة للآخرين كان قديساً".

 

أما على الشاشة الصغيرة، هناك ضجة صاخبة حول المسلسل المنتظر "المهووس" من إنتاج نتفلكس، (مستوحى من مسلسل نرويجي عن مصحة نفسية يحمل الاسم نفسه). في المسلسل الأميركي اللامع والمثير، تجسد إيما ستون وجوناه هيل شخصيات مجهولة تخضع لتجربة عقاقير غامضة تهدف لمعالجة مشاكل الصحة العقلية. كما يخبر الدكتور مانتليري مرضاه (والذي يجسده جاستن ثيروكس) "هذا ليس علاجاً – إنه علم". وتقول ستون في حديثها لمجلة "إل Elle":

 

"ما أعجبني في"المهووس" هو أنه يتعلق بأشخاص يعانون من صراعات داخلية ويحاولون إصلاحها عن طريق الحبوب، لكنك سترى على مدار المسلسل أن الارتباط الإنساني والحب هما في الحقيقة الشيئان الوحيدان اللذان يساعدان البشر في الحياة".

 

تنجذب الدراما الإبداعية نحو تعقيدات وهشاشة العقل البشري، لكن نوعية الترفيه السائدة تتطلب حلاً سريعاً. أضف إلى ذلك، أن تعريف "الجنون" لطالما كان إشكالياً بطبيعته؛ إِذْ يُعد من المصطلحات الطبية القديمة. كتب الدكتور ريان هاوز على موقع "علم النفس اليوم Psychology Today " أن "هذا التوصيف قدمه العاملون في مجال الصحة الطبية، ولكن المصطلح اليوم مقبول قانونياً، وليس نفسياً"، ويستشهد بتعريف موقع Law.com بأن "المرض العقلي في صورته القصوى والذي يجعل الشخص غير قادر على التمييز بين الخيال والواقع، أو إدارة شؤونه بسبب الذُّهان، أو يجعله عرضة للقيام بسلوكيات متهورة لا تمكن السيطرة عليها".

 

ومع ذلك، لا تزال تنبع تصوراتنا الشائعة عن "الجنون" من مشاهد سينمائية – بشكل أكثر بكثير، في الحقيقة، من الروايات أو الذكريات التي يمكن أن تستند إليها. ترك الفيلم الكلاسيكي "حلّق أحدهم فوق عش الوقواق One Flew Over the Cuckoo's Nest " (1975) بصمة واضحة في نفوسنا عن المصحات العقلية المدمرة للنفس، حيث يدعي أحد المساجين الجنون ويُدعى راندل باتريك ماكمفري (يجسد شخصيته جاك نيكلسون) ليُنقل لمشفى الأمراض العقلية ليهرب من السجن، لكنه يفشل في نهاية المطاف بسبب المنظومة. أحدث التصوير الدرامي لمعالجة المريض النفسي، وخاصة العلاج الوحشي بالصدمة الكهربائية، تأثيراً بعيد المدى. وصل الأمر إلى درجة أن تقول صحيفة التلغراف عام 2011 إن الفيلم كان مسؤولاً عن "تشويه صورة العلاج بالصدمات الكهربائية بشكل لا يمكن إصلاحه".. كما أنه حفز تطوير أدوية مضادة للذُّهان (مضادات نفسية) أكثر فعالية ساعدت المرضى.. أن يعيشوا حياة أكثر طبيعية".

 

في الوقت ذاته، قدّم نيكلسون شخصية الرجل المجنون في صورة قاتل استعراضي – في مشهد "ها قد جاء جوني! Heeere's Johnny!" من فيلم "البريق The Shining" من إخراج ستانلي كوبريك عام 1980. على مدى عقود، استمرت أفلام الرعب تهيمن على تصوير حالة "الجنون" في السينما – لاسيما فيلم "مضطرب العقل Psycho " للمخرج ألفرد هيتشكوك (1960)، حيث جسد نورمان بيركينز الشخصية الشهيرة "نورمان بيتس" على وقع موسيقى بيرنارد هيرمان. يزداد الأمر ابتذالاً مع تزايد الوحوش السينمائية: شخصية مايكل مايرز في فيلم "الهالوين Halloween"، وجايسون فورهيس في فيلم "يوم الجمعة الثالث عشر Friday the 13th"، وفريدي كروغر في "سلسلة كابوس في شارع إلم A Nightmare on Elm Street" – حيث يصور المجانين على أنهم أشرار، وغالباً ما تكون الشخصيات ملثمة أو مشوهة لتزيد من تأثير الصدمة.

 

من الإثارة إلى الحساسية؟

 

حلل الطبيب النفسي الأميركي "داني ودينغ" عدة قضايا في كتابه "الأفلام والمرض العقلي Movies And Mental Illness"، قائلاً تسبب أفلام مثل "مضطرب العقل Psycho" عام 1960 ارتباكاً مستمراً حول العلاقة بين الفصام واضطراب الشخصية الانفصامية (اضطراب الشخصية المتعددة سابقاً)؛ بينما تؤيد أفلام مثل "يوم الجمعة الثالث عشر Friday the 13th" (1980) وفيلم "كابوس في شارع إلم Nightmare On Elm Street " (1984) الاعتقاد الخاطئ بأن الناس الذين يغادرون مستشفيات الأمراض العقلية هم عنيفون وخطرون. وتوحي أفلام مثل "طارد الأرواح الشريرة The Exorcist" (1973) للجمهور أن المرض العقلي يعادل المس الشيطاني، وتصور أفلام مثل "حلّق أحدهم فوق عش الوقواق One Flew Over the Cuckoo's Nest" (1975) مستشفيات الأمراض النفسية على أنها ببساطة سجون لا يوجد فيها أي احترام لحقوق المريض أو رفاهيته. تمثل هذه الأفلام جزئياً استمراراً لوصم الأمراض العقلية.

 

 

وفي نفس الوقت، قد تردد الأفلام صدى الخرافات والوصمات المتجذرة بالفعل في مختلف الثقافات والمعتقدات، بما في ذلك فكرة أن المرض العقلي هو بشكل أو بآخر شيء قادمٌ من عالم آخر أو خارق للطبيعة. يناقش المقال الأكاديمي "الثقافة والهلوسة" المقالة التي تحمل عنوان "نظرة عامة وتوجهات مستقبلية" (لفرانك لاروي وتانيا ماري لورمان وأنجيلا وودز، عام 2014) قائلاً: "للثقافة بالفعل تأثير كبير على تجربة وفهم وتصنيف الهلوسة، وقد تكون هناك عواقب نظرية وسريرية مهمة لتلك المشاهدة".

 

تدور أحداث الفيلم الياباني الصامت "صفحة من الجنون" من إنتاج عام 1926 ذو الجمال الآسر والسريالي (مع الاستخدام المعبر للأقنعة وتسلسل الأحلام)، في ملجأ حيث أصبح زوجان نزيلين فيه ومشرفين عليه، وهو يسلط الضوء على شرف العائلة والشعور بالذنب.

 

في حين أن 'المجانين' قد يتم تصويرهم كوحوش أو أشرار (مثال لقاء بروس بيتس و براد بيت في فيلم الخيال العلمي 12 Monkeys عام 1995، أو ميل جيبسون في Mad Max أو هلوسات ليوناردو دي كابريو في فيلم Shutter Island من إنتاج 2010)، أو ببطولة أُسيء فهمها (The Madness of King George إنتاج 1994)، وتطرح السينما مشاكل مختلفة لـ 'سيدات مجنونات'. فقد كان يُنظر قديماً إلى "الهستيريا" بشكلٍ ظاهري على أنها مأساة أنثى (فهي مستقاة من الكلمة اليونانية hysterus ، أي "الرحم"). فـ "الجنون" الأنثوي، والسلوك غير العقلاني، كان يعرض على الشاشة غالباً بشكل مفرط جنسياً -سواءً كان متهوراً ومدمراً، مثل باتريس دالي في الدراما الفرنسية المثيرة Betty Blue إنتاج 1986، أو منمقاً براقاً كفيلم دارين أرنوفسكي Black Swan إنتاج 2010 أو فيلم نيكولاس ويدننغ ريفن The Neon Demon إنتاج 2016.

 

لا يزال الرعب المنتشر من "المرأة المجنونة" يسود في Fatal Attraction إنتاج 1987، حيث تتحول غلين كلوز التي رشحت لجائزة الأوسكار من امرأة راشدة وعاملة إلى عشيقة مرفوضة ومن ثم إلى منتقمة هوجاء. وقد انعكس ذلك بوضوح على شخصية الممثلة، إذ قالت متحدة حول الموضوع في مقابلة عام 2017 مع صحيفة نيويورك تايمز "اعتبرت شريرة أكثر من كونها امرأة تحتاج إلى مساعدة، وهو الأمر الذي يذهلني". وأضاف المناهض لوصمة العار التي تحيط بالصحة العقلية، باتريك كينيدي، في نفس المقابلة أمام كلوز قائلاً:

 

"بصراحة، ربما ساهمت هذه الشخصية في وصم الأشخاص الذين يعانون من مرض عقلي مثل أي فيلم آخر. إنه فيلم مؤثر وللأسف قامت غلين بأدائها بشكل جيد".

 

ومن جانب آخر، كانت هناك صور أكثر تعاطفاً مع الأمراض العقلية الأنثوية -بما في ذلك دور جينا رولاندز في فيلم جون كاسفيتيس A Woman Under the Influence إنتاج 1974، أو دور جيسيكا لانج عام 1982 للسيرة الذاتية لفرانسيز فارمر (ممثلة أميركية في الثلاثينيات من القرن العشرين احتجزت قهراً في منشأة نفسية). تصدرت وينونا رايدر بطولة فيلم Girl, Interrupted إنتاج 1999، المقتبس عن قصة حقيقية لسوزانا كايسين عندما قضت فترة في مستشفى للأمراض النفسية للشباب في الستينيات. وفازت النجمة أنجلينا جولي بجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة عن دورها بالفيلم، لكن كايسن نفسها كانت أقل اقتناعاً بفيلمها، ووصفته بأنه "هراء ميلودرامي".

 

تتطلب السينما فعل "الاستنتاج"، أكثر من معظم أشكال الفن الأخرى، وأدى "الجنون" عادة إلى مصائر مأساوية، حتى في أكثر الروايات تعاطفاً. في تحفة المخرج المصري يوسف شاهين "باب الحديد" إنتاج 1958، رُفض بائع الجرائد الشاب الهش قناوي (الذي يلعب دوره شاهين بنفسه) من قبل المرأة التي كان يحبها، فعانى من انتكاسة عنيفة. ثم يهدئه راعيه (الذي كان بمثابة أبٍ له) وهو يلفه في سترة ضيقة، مقنعاً إياه أنها بذلة زفاف.

 

في الفيلم المدمر Requiem for a Dream إنتاج 2000 للمخرج دارين أرنوفسكي (المستقى من رواية هربرت شيلبي جونيور التي نشرت عام 1978)، يحكي قصة ربة منزل من بروكلين، أصبح ابنها وأصدقاؤه محطمين عقلياً وجسدياً من خلال إدمانهم للمخدرات.

 

ويبدو أن السينما بدأت تنفتح تدريجياً مع حلول القرن الواحد والعشرين على صور أوسع وأكثر حساسية للأمراض العقلية. ويُعد فيلم Maniac للمخرج كاري فوكوناغا مثالاً على لفت الأنظار إلى فكرة "استكشاف العقل البشري".

 

تقدم أفلام مثل Prozac Nation إنتاج 2001 وGarden State إنتاج 2004 وجهة نظر جيل الشباب، فقد أصبح استخدام المخدرات شائعاً، وحلت مراكز إعادة التأهيل الحديثة و"الخاضعون لإعادة التأهيل" محل المصحات النفسية المروعة وسجنائها، وحدث تحسن تدريجي في النقاشات الدائرة حول محو وصمة العار المتعلقة بالصحة العقلية.

 

حتى فيلم الخيال العلمي Donnie Darko المليء بالهلاوس من إنتاج 2001 قد كشف عن نزعة حساسة وأمل واعد. وأخيراً، تألق فيلم Silver Linings Playbook إنتاج 2012، من بطولة برادلي كوبر وجنيفر لورانس (باعتبارهما بطلين يُعاد تأهيلهما من الاضطراب الثنائي القطب والاكتئاب على التوالي)، حين أُثيرت الفكرة في جو غريب عن الأفلام الرومانسية الكوميدية.

 

 

قد تروّج السينما وتعكس الوعي العام المتزايد بالصحة النفسية؛ لكن لا تزال فكرة "الجنون" تجذب المشاهدين وتقربهم من هشاشتهم الخاصة.

 

– هذه التدوينة مترجمة عن موقع BBC الإنكليزي.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أروى حيدر
صحفية ولدت في بغداد وتعمل محررة موسيقية
تحميل المزيد