في السنة الخامسة ابتدائي وفي إحدى المدارس العمومية كان لديَّ مدرس للغة الفرنسية والرياضيات يكاد القسم كله يخشع بين يديه لفرط قوته وطبعه الحاد، كان لا يتوانى عن ضربنا بالعصى أحياناً وبلكماته أحياناً أخرى كثيرة، حتى إنه قد عضّ تلميذاً في إحدى نوبات غضبه، لا أنساه ولا أنسى اسمه ولا شكله ولا حتى ذلك المنديل الذي كان يتمخط فيه بقوة، ويعيد طيّه وإدخاله في قب جلبابه البني الداكن.
لم أكن أخافه بنفس الشكل الذي يهابه به زملائي؛ وذلك راجع لتفوقي الدراسي وحسن سلوكي. فكنت لا أجد أي مشكل مع أي مدرس كيفما كان طبعه، على العكس كنت التلميذة المفضلة التي لا تبارح المقعد الأول وكانت علاقتي به مبنية على الاحترام، كان يستعين بدفاتري لتذكر ما فات وكنت سفيرته للأقسام الأخرى والمدرسين. حتى تغير كل شيء في لحظة.
لحظة قررتْ مصير علاقتي به، لحظة لم أسلم فيها من موجات غضبه المقيتة وأنا التلميذة المجتهدة التي تحتل المراتب الأولى وتكتب دروسها ببراعة وتنجز واجباتها بإتقان، ويعتبر دفترها وخطها وتنظيمها مضرب المثل، هذا كله لم يشفع لي عندما وجدني أوشوش زميلاً لي داخل الحصة ليستجمع قواه ويضربني بلكمة يده العملاقة على ظهري.
فقدت خلالها الإحساس بالزمن لبرهة حتى وجدته هو نفسه قد اصفر لون وجهه خوفاً من أن أزهق الروح بين يديه، أما زميلي فلقد أكل ما لم يأكله حمار الطاحونة.
صدمت وأصبت بحالة من الذهول الغريب لا أفهم ما يجري ولا كيف ولا لماذا، فقدت حينها كل ذرة احترام له وأصبح بالنسبة لي مجرد نكرة.
منذ ذلك اليوم تغير كل شيء صرت أجلس في آخر الصف لا أتكلم ولا أشارك، أصبحت شفافة كالهواء لا حسّ ولا صوت بعدما كان أصبعي أول الأصابع الممدودة للإجابة عن الأسئلة.
كنت طفلة في سن العاشرة، لكني أحمل وجع امرأة في الثلاثين، كانت تلك طريقتي البريئة في معاقبته، أن أصبح شبحاً داخل الصف، لطالما حاول التقرب منّي وتجاوز الأمر لكني في كل مرة أراه أشعر بلكمته تخترق عمودي الفقري الهش، لم أخبر أهلي بالأمر لعلمي المسبق أنه لن يتغير حتى ولو جاء أبي ووبخه وشكاه للمدير، كنت أتحول من طفلة تشع حياة وبهجة وتفوقاً وعشقاً للفصل والتمارين والسبورة في الفصول الأخرى، لخرساء صماء في فصله، تدخل لتفتح كراستها وتعرض واجباتها المنزلية وتعتدل في جلستها وتطوي يديها ثم تسرح في خيالها إلى نهاية الحصة.
كان الأمر يثير أعصابه وهو الذي يعلم جيداً مستواي عند مدرس العربية وحيويتي، وهو الذي قد خبر حبي للرياضيات وكان منبهراً لسرعة فهمي ويدعو البقية للاقتداء بي.
فبعد أن كان يستعين بي في الكتابة على السبورة ويطلب منّي مساعدته في تصحيح الدفاتر ويأتمنني على الصف عند غيابه أصبحنا أنا وهو لا يجمعنا سوى الصمت. حتى إنني أحياناً كنت أتعمد النظر داخل عينيه لأشعره بتأنيب الضمير.
كنت أتجنب كل ما قد يمكن أن يعاقبني لأجله، لم يكن يجد ما يوبخني أو يسألني عنه، الشيء الذي يشعرني بامتعاضه، برغبته في ضربي لكن لا سبب يسمح له بذلك.. حتى جاء يوم الانتقام، انتقم هو لي من نفسه، فلقد استشاط غضبه وفكت كل صمامات تحكمه في ذاته ولم يعد يقدر على كبح جماح غيظه، فبدأ بالصراخ بوجهي وتوبيخي لسبب ما زلت إلى الآن أفقد عقلي كلما تذكرته.. السبب كان أنه لمحني في الشارع وأنا في طريقي للمدرسة آكل شيكولاتة، كان الفعل بالنسبة له يفتقر للآداب العامة.
لا أعلم ما الذي أغضبه بالضبط هل أنا أم الشيكولاتة اللذيذة، لكني كنت على يقين أنني لم أفعل شيئاً أستحق عليه كل هذا الغضب سوى أنني كنت سعيدة أضحك مع صديقتي وأستلذ بقطعة الشيكولاتة الكندية التي أهدتها لي خالتي.
هناك سقط أكثر من سقوطه الأول، هناك وأنا طفلة ساذجة لا تعرف شيئاً سوى أن شيئاً بداخلها، لم تكن تعرف أنه "الكرامة" بعد، قد جرح دون سبب. شعرت بلذة الفوز عليه، أخرجته من شرنقته بالشيكولاتة وجعلته يواجه غضبه وحنقه وعيوبه بالصمت وحده.
في ذلك اليوم أحسست أنني أخذت بثأري منه واقتصصت لنفسي وأنا أراه يعربد فاقداً كل تحكم في نفسه، لعابه يسابق كلامه والعرق يتشبث بجبينه كي لا يسقط وأوداجه تكاد تنفجر، دون سبب منطقي، بل بسبب شيء لا يجدر أن يزعج حتى نملة.
بعد انتهاء الحصة خرجت كالمنتصرة نظرت نحوه لأجده شاحباً، في عينيه ندم شديد وخجل أشد.. تجمهر حولي زملائي في الساحة يحاولون فهم ما حصل ليصابوا بنوبة ضحك هستيري بمجرد أن علموا أن كل غضبه كان بسبب الشيكولاتة الكندية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.