مع ازدياد عدد الكتب التي يتم طبعها بمصر، آثرتُ كتابة هذا المقال الذي أود تشبيهه برحلة سريعة وقصيرة لكواليس عالم النشر في مصر، فمنذ ثلاثة أعوام بدأت رحلتي مع عالم النشر بنشر أول كتبي في مجال الأدب الساخر، وكان ذلك إيذاناً بالتعرف على ما يدور بهذا المطبخ الورقي بدءاً من الاتفاقات التي تتم بين الكاتب ودار النشر وصولاً لوقوع الكتاب بين يدي قارئه.
في لقاء تلفزيوني لشيخ الحكَّائين نجيب محفوظ.. أخبر المذيعة بأنه انتظر ما يزيد على 12 عاماً حتى نشر أول كتبه وقضى دهراً يبحث عن ناشر يجيز نشر كتابه، بينما حالياً يكفيك أن تمتلك "صفراً" من الموهبة الإبداعية والأدبية وما يزيد على 10 آلاف متابع على أي من مواقع التواصل الاجتماعي لإغراء أي ناشر بنشر أي "كلام فارغ" وأي ضرب من ضروب الهرتلة والسماجة وإطلاق مسمى "أدب" عليها!
إن حالة النشر في مصر لا تنذر بأي خير؛ فالمسؤولية الكبرى تقع أولاً على بعض دور النشر "اللي طلعت تحت بير السلم" وملأت السوق الأدبية بما هو غث، وبلغ الجشع المسيطر على بعض أصحاب تلك الدور مداه، فهم يستغلون طموحات الصغار في نشر الكتب فيأخذون منهم 3 آلاف جنيه أو ما يزيد في مقابل طباعة ونشر وتوزيع كتبهم التي لا قيمة لها علميّاً أو أدبيّاً.
والخبث قد وصل بأصحاب تلك الدور لأن يتفقوا مع هذا الكاتب الصغير على خداع القراء، فإذا كان المتعارف عليه أن يصل عدد نسخ الطبعة الواحدة لـ1000 نسخة حتى نستطيع القول إن تلك الطبعة قد انتهت، يُمعن الناشر الخبيث في الضحك على القراء فيتفق مع الكاتب على طباعة 200 نسخة على 5 مرات، وفي كل مرة يخبر القارئ بأن تلك هي الطبعة الأولى والثانية والثالثة.. إلخ، حتى يدفع القارئ لأن يظن أن الكتاب ناجح بكل المقاييس والدليل تعدد طبعاته ومبيعاته الوهمية!
وقد يصل ببعض الناشرين لأن يتفقوا مع بعض المكتبات الشهيرة لوضع بعض الكتب في قائمة الكتب الأعلى مبيعا لدفع القارئ أيضا للاعتقاد بنجاح الكتاب رغم أن الأعلى مبيعاً في بعض المكتبات قد يصل لبيع 10 نسخ فقط بالأسبوع الواحد وليس كما يتوهم بعض القراء بأن البيع بالمئات.
فإن وصل الكتاب بعد تلك الاستراتيجيات المخادعة لقائمة الكتب الأعلى مبيعاً بالفعل، فالمكتبة والناشر هما الفائزان بكعكة المبيعات، وإن لم يصل الكتاب فلا ضير من الكذب على القارئ الطيب.
وإن قلتُ إن المسؤولية الكبرى تقع على دور النشر، فإنني لا أنفي المسؤولية أيضاً عن القارئ الذي يشجع السفه الأدبي ويذهب لشراء كتب لا قيمة لها سوى أن أصحابه أخبروه بأنها "كتب دمها خفيف وبتخلص بسرعة في القراءة"، فكثير من القراء أصبحوا قراء "تيك أواي" يكتفون بشراء الكتب الأكثر شهرة ويضعون صورتها مع فنجان القهوة على Instagram حتى يُقال عليهم "مثقفين" على الرغم من الكتب الأكثر شهرة أو الأعلى مبيعاً قد لا تكون بالضرورة هي الأفضل أدبيّاً أو الأثرى معرفيّاً.
إن الأدب الساخر والشعر أكثر ما أصيب في مقتل، جراء فتح الباب على مصراعيه أمام "كل من هبّ ودبّ" للدخول لعالم الكتابة؛ فالعامية المفرطة والمصطلحات المبتذلة واللغة الركيكة و"بوستات" فيسبوك باتت كتباً رائجة وذائعة الصيت لدى جمهور القراء الجدد.
أضف إلى مسؤولية الناشر والقارئ مسؤولية بعض "جروبات" القراء على مواقع التواصل، التي كنت أحترمها حتى وقت قريب، إذ كنتُ أعتقد أنها تهدف لتنشيط حركة القراءة وتبادل الكتب، ولكن سرعان ما اكتشفت أن كثيراً من أصحابها "الأدمنز" يسيرون في اختياراتهم وقراراتهم على مثل تلك الجروبات وفقاً لأهواء أصدقائهم من الناشرين، فيرشحون لك هذا الكتاب أو ذاك ويتحولون لبوق دعائيّ لدور نشر بعينها ولكتَّاب بعينهم، ويحرمون بعض الكتَّاب الآخرين من نشر ما يروج لكتبهم على تلك الجروبات وكأن تلك الجروبات باتت حكراً على بعض دور النشر!
مسؤولية أخرى تقع على عاتق وزارة الثقافة بمصر والمؤسسات التابعة لها، والتي لا تساعد صغار الكتَّاب الموهوبين بحق على نشر أعمالهم الإبداعية، فتحرم وجوهاً لا تستحق الظهور على الساحة الأدبية، وتدفع الناشرين "الذين يشبهون القطاع الخاص" للنشر لمن لا يمتلك الموهبة ولكنه يمتلك "ثمن" وقود الطباعة في حركة رأسمالية فجة طالت صناعة الأدب في مصر. أما عن دور النشر الكبرى فهى لا تهتم أساساً بصغار المبدعين وتركز في نشرها للكبار أو لذوي الأعلى مبيعاً.
أضف إلى كل هذا غياب دور المؤسسات الثقافية المصرية والجهات المعنية بإيداع الكتب وترخيصها من مراجعة الأعمال الأدبية المنشورة، فهى أولاً وأخيراً جهات مانحة لتراخيص نشر ولا تتحكم في المضمون ما يسمح لبعض دور النشر بقبول العروض المالية لنشر ما لا يستحق أو لا يُحمد عقباه!
ليس مدعاة للفخر أن نجد في مصر الآلاف من الكتَّاب؛ لأننا نعلم أن 95% منهم ليسوا كتَّاباً بحق ولا يفقهون شيئاً في الكتابة أو الآداب، فهم نجوم مواقع تواصل أو أناس يمتلكون مالاً وفيراً يريدون استغلاله لدخول عالم الأدب علَّهم يظفرون ببعض الشهرة وكأن الزمن أضحى (زمن الكاتب لكل مواطن).
فالسوق الأدبية المصرية أصبحت "مهلبية بالزبيب"، والزبون المصري فيها ليس على حق، ولكنه مضطر أن يأكل ما يُقدم له علَّه يظفر هو الآخر بلقب "مثقف"!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.