مرت الثورة السورية على مدى السنوات السبع الماضية بعدة مراحل تأثراً بالمواقف الإقليمية والدولية والتدخلات الخارجية والتطورات الميدانية، كان آخرها تحوّلها إلى صراع دولي بالوكالة، وأحياناً بشكل مباشر على الأرض السورية. وبعد فترات كان النظام السوري فيها على وشك السقوط، باعتراف مصادر روسية وإيرانية، يبدو اليوم وكأنه عاد للسيطرة التدريجية على كافة الأراضي السورية في ظل تراجع واضح للمعارضة، بعد محطات مثل حلب والغوطة الشرقية ودرعا، والتهديد بالسيطرة على إدلب بعملية عسكرية واسعة.
هذا التقييم وتطوّر الأحداث على مدى السنين الفائتة دفع النظام إلى حسابات خاطئة بالكلية بسبب نشوة اللحظة الراهنة. لا أتحدث هنا عن "خطيئته" الكبرى إزاء شعبه، التي أوصلت البلاد لما وصلت إليه اليوم: مئات آلاف الشهداء وملايين اللاجئين والنازحين وتدمير البلد والانقسامات المجتمعية والتدخل الخارجي الذي بات هو من يقرر للسوريين وعنهم وباسمهم، بل أتحدث عن "أخطاء" فرعية عن تلك الخطيئة.
هناك خطأ ارتكبه النظام في البدايات، لكن لا بد من الإشارة له سريعاً لما له من تأثيرات كبيرة ومباشرة على المآلات اللاحقة والمشهد الحالي، وهو خطأ مغلَّف بدهاء سياسي وأمني لافت. راهن النظام على عسكرة المظاهرات وتحويل الاحتجاجات الشعبية السلمية إلى مواجهة عسكرية، أولاً من خلال التعامل الأمني الحاد مع المتظاهرين، وثانياً بإطلاق سراح "المتشددين" من سجن صيدنايا ليتحولوا سريعاً إلى قيادات لفصائل عسكرية تواجهه في الميدان. هدفَ النظام من ذلك إلى تحقيق معادلة واضحة لاحقاً: إما النظام وإما "الإرهاب"، وهو ما استطاع الوصول له مؤخراً إذ باتت "مكافحة الإرهاب" هي عنوان القضية السورية والمقاربة الدولية والإقليمية لها، وهو ما أمدَّ بعمر نظامه حتى اللحظة.
بعد التدخل الروسي في سبتمبر/أيلول 2015 وانسحاب قطر والسعودية من المشهد وتبدّل أولويات تركيا، تقدم النظام بشكل واضح؛ حيث قدمت له موسكو الغطاء أحياناً وشاركت معه أحياناً أخرى، وهو ما دفعه للظن بأن بإمكانه إعادة سيطرته على كافة الأراضي السورية، أو على الأقل استغلال الدعم الروسي -والإيراني- لفعل ذلك أو الضغط باتجاهه، وبالتالي العودة لما قبل 2011 واعتبار السنوات الماضية وكأنها لم تكن.
الخطأ الأول في هذا التقييم هو إغفال العامل الأميركي في المعادلة. اليوم، حوالي ثلث الأراضي السورية يسيطر عليها حلفاء واشنطن الميدانيون: حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية مثل وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، وهي هناك بحماية 14 قاعدة أو نقطة عسكرية أميركية. وتدرك جميع الأطراف أن بعض جوانب الوجود العسكري الأميركي طويل الأمد وليس مؤقتاً، في منطقة يصلح أن تسمى على الحقيقة "سوريا المفيدة" لما فيها من مصادر طاقة ومياه، كما أن هذه الأطراف تدرك أن إخراج واشنطن من هناك ليس أمراً سهلاً ولا قريباً، وهو ما يعني أن سيطرة النظام على الأرض لها حدود ومُعيقات كبيرة، وأن إمكانية استعادة وحدة البلاد أمر مشكوك فيه كثيراً.
الخطأ الثاني، المتولد من تحويل الثورة السلمية لمعركة عسكرية دون حساب المآلات، هو الاعتقاد بإمكان إفناء المعارضة العسكرية تحديداً والقضاء عليها، وبالتالي العودة بالبلاد إلى ما قبل 2011. إن نماذج مثل أفغانستان والعراق واليمن وليبيا تثبت بشكل لا لبس فيه أن عقارب الساعة لا تعود للوراء، وأن حمل السلاح قرار لا رجعة عنه بالضغط والتطورات الميدانية، ولا يمكن أن يكون إلا بمصالحات عامة وشاملة وحقيقية، ورغم ذلك ففُرص تحقّقها تبقى ضئيلة جداً.
ما يجهله النظام أنه حتى ولو تمكّن من السيطرة على إدلب بالكامل، الآن أو لاحقاً، وحتى لو -فرضاً- استطاع بمساعدة حلفائه إخراج تركيا من الشمال السوري، فليس ممكناً ولا متخيلاً عودة سيطرته على البلاد كما كانت سابقاً. إن التفاعلات التي حُفرت عميقاً في ضمير السوريين وحياتهم على مدى 7 سنوات ونصف لا يمكن محوها أو محسها بـ "انتصار" عسكري (وهو مصطلح متهافت ومفتقد للأرضية الأخلاقية أصلاً)، ولذا فالبلاد مرشَّحة للبقاء على هذه الحال سنوات طويلة ومديدة، بانقسامات مجتمعية ومناطقية وسياسية وفصائل عسكرية وإدارات محلية، بما يتنافى تماماً مع منطق الدولة وفكرة السيطرة والهيمنة.
والخطأ الأخير -في المقال وليس في واقع الحال- للنظام هو ثقته المبالغ بها في "حلفائه"، بافتراض صحة المصطلح التي تدحضها وقائع كثيرة ليس آخرها تعامل موسكو مع إسقاط طائرتها قبل أيام. إن إصرار كل من روسيا وإيران على بقاء الأسد في السلطة لا يعدو كونه ورقة تفاوضية ورفعاً للسقف في مواجهة الأطراف الأخرى واستثماراً للأوضاع الميدانية وفرضاً للرؤية الروسية للحل. لكن جميع الأطراف تدرك أن ذلك أمر قد يكون مؤقتاً. وحين تنتفي هذه الحاجة الروسية للأسد وحين يكون هناك حاجة لثمن حقيقي يقدَّم لدفع الحل السياسي مستقبلاً، فإنه لن يكون على موسكو – وحتى طهران – أسهل من طيّ صفحة الأسد وإعادة هيكلة النظام من داخله، وربما أكثر من ذلك.
كان وما زال وسيبقى الحل الممكن في سوريا، بغض النظر عن مدى عدالته وصعوبة تحقيقه والتحديات الماثلة أمامه، هو اتفاق سياسي ينهي المواجهة العسكرية على قاعدة التغيير الجذري في بنية الدولة السورية وتثبيت حقوق السوريين وتغييب المسؤولين الرئيسيين عن المجازر التي ارتُكبت، وتأسيس عدالة انتقالية حقيقية للحفاظ على ما تبقى من سوريا وشعبها.
أما ادعاء السيطرة وانتشاء التقدم وسكرة القوة التي يعاني منها النظام، فلن توصله إلى مكان، اللهم إلا إلى إدامة الصراع بكل دمويته حتى اللحظة التي تصل فيها القوى الدولية المالكة للقرار إلى اتفاق ممكن، وحينها لن يعود للأسد وللكثير من أركان نظامه أي حاجة أو ضرورة.
أخطأ النظام في البدايات، وما زال يخطئ حتى اليوم، وما زالت سوريا دولةً وشعباً تدفع ثمن أخطائه وأخطاء الجميع. فهل ثمة رجل رشيد يعي حقائق المرحلة ومخاطر المستقبل، أم أن مجرد طرح سؤال كهذا حول نظام كهذا هو خطأ إضافي وأخير في هذا المقال؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.