بعد الجزء الأول من مقالتي أُكمل من حيث توقفت، أما بعد: فسأتناول أنا الأسباب على صعيدين شخصي وعلمي.
وأقصد هنا بشخصي أي يخص كل شخص على حدة؛ بالأسباب والدوافع الداخلية الخاصة به.
وسأبدأ بالشخصي: إن اللجوء لمثل هذه المواقع هروب من الواقع وأزماته ومواجعه، فما أن تقع مشكلة سياسية حتى تجد النكات تملأ هذه المواقع ليظنون بهذا أن الواقع وردي، وأن شأنهم فقط السخرية منه، والحلول تأتي وحدها غداً.
أليس علينا أن نقف مع ذاتنا قليلاً لنستطيع على الأقل أن ننظر عن كثب إلى أي حالٍ آلت بنا الأوضاع، هذا الحال الذي أصبح بلا شكٍ يرثى له.
يا لبؤس الأوضاع، حينما تحدث كارثة تخصناً جميعاً بلا استثناء لنجد ردة الفعل سخرية، ونكات تملأ السوشيال ميديا وضحكات وسعادة عارمة وسط هذه المهزلة.
لنقول بهذا أننا سعداء ولم يؤثر فينا شيء، لسان حالهم يقول: لا تقلقوا نحن نسخر من الوضع إذاً لا نزال محافظين على بعض قوانا العقلية.
والسبب الآخر فإن الجلوس أمام هذه الشاشات ساعات طويلة ومتواصلة ومتابعة هذا وذاك ما هو إلا فراغ؛ أوقات ليس بها ما يستغله الفرد.
ومن بعض نماذج الفراغ:
في حوارٍ تلفزيوني سأل مقدم البرنامج أحد مشاهير السوشيال ميديا، قال: لماذا تشاركي حياتك على هذه المواقع بأدق تفاصيلها؟
فجاء ردها: إنها ليس لديها أصدقاء فعوض ذلك الفراغ الذي كانت تشعر به.
تتشارك مع الآخرين حياتها، بما فيها إن حدث خلافٌ مع زوجها، وتشارك كذلك حياة ابنها، فالسؤال الذي سأترك لكم الإجابة عليهِ، هل من حقها مشاركة خصوصيات تخص غيرها معها؟
ابنها طفل، أليس من حقه أن يختار إذا كان يريد أن تكون حياته خاصة أو عامة؟!
وغيرها الكثير حولنا ممن يشاركن حياتهنَّ، وإن لم يكنَّ بنفس الصورة.
منذ عدة سنوات لم يكن أحد ليجرؤ أن يشارك هذه التفاصيل الخاصة جداً على هذه المواقع، فماذا حدث؟
ما الذي آل بنا إلى هنا؟
أحدث خلل في معاييرنا فاستبحنا اليوم ما كان محرماً أمس؟!
لماذا لم نعد نهتم حتى بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)؟
لماذا صرنا نتشارك لن أقول حياتنا بل خطواتنا للعلن، لنستبيح الخصوصية، ونقضي على القيم والمعايير، لنصبح مجتمعاً بلا قيم يقتل فراغه بالوهم؟
أما على الصعيد العلمي: فعندما يحصل شخص على إعجاب أو مشاهدات في أحد التطبيقات، فإن الدماغ يفرز مادة الدوبامين (هرمون السعادة)، والتفاعل مع الآخرين على هذه المواقع، يمنح الأشخاص شعوراً بالانتماء (مزيف)، مما يحفز الدماغ على طلب المزيد من الدوبامين، فيحدث ما يسمى بإدمان السوشيال ميديا؛ ليصل بالأفراد لوجود توتر وقلق عند وجود أي عائق للاتصال بشبكة الإنترنت، بل وإن بعض الحالات تصل للاكتئاب.
وقد أوضحت عالمة النفس الأميركية كيمبرلي يونغ إدمان السوشيال ميديا: بأنه استخدام الإنترنت لمدة تصل إلى 38 ساعة أسبوعياً.
وأوضحت الدراسات أن هذه المواقع تؤثر في القدرة على الإبداع، بل وتعيق الأفراد عن إقامة علاقات اجتماعية سليمة، وتحفز على إهمال الواجبات الاجتماعية والأسرية والوظيفية.
وكما أثبتت الدراسات أن السبب في إدمان هذه المواقع هو الهروب من الواقع والفراغ والوحدة.
عزيزي القارئ، أظننا الآن أمام مشكلة حقيقية ومخيفة، فبلا شك عندما نجلس أمام هذه الشاشات ساعات طويلة ونهدر فيها أوقاتاً لاحصر لها فإن ذلك لن يورث إلا الندم بعد عدة سنوات أو حتى أشهر.
أما استغلال هذه الأوقات في القراءة، أو ممارسة الهوايات، أو الجلوس مع أنفسنا والتخطيط للمستقبل، برسم خطط قصيرة وطويلة الأمد ونشرع لتحقيقها، فبالتأكيد سنشكر أنفسنا لاحقاً.
ولا أسعى للقول: ألا يجلس على هذه المواقع نهائياً، ولكن علينا أن نكون على دراية بأخطارها حتى لا تأخذنا في طريق خطير ودامة أخشى ألا ندرك وجودنا فيها إلا بعد فوات الأوان.
علينا أيضاً التحدث مع أنفسنا ومراجعة معاييرنا وقيمنا ومبادئنا وأهدافنا وغاياتنا في الحياة ونشرع في العمل عليها والحفاظ على علاقات اجتماعية سليمة بمن حولنا، حينها فقط سنستطيع أن نقول إننا أعطينا كل ذي حق حقه، من العمل، والحياة بصفةٍ عامة، وعلاقاتنا الاجتماعية التي أهملناها طويلاً، وأيضاً مواقع التواصل الاجتماعي التي إن سلمنا لها واستخدمناها في غير مواضعها التهمت أوقاتنا كمان تلتهم النار الحطب، وإن استخدمناها بغير وعيٍ دمرت حياتنا وأنهت على علاقاتنا ونشرت الفساد والخلل في مجتمعاتنا كما تنتشر النار في الهشيم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.