شاب رشيق ذو قبعة وشعر طويل، يتراقص على خشبة المسرح مزهواً مرحاً، تارة هنا وهناك يرسل تحاياه لجمهوره ويشعل فيهم جمال ما يدندن من كلمات وإيقاع، ينادي الشباب وجمهور المهاجرين المرتحلين بلا عودة، يخاطب راكبي الأمواج، الحاملين أرواحهم على أكفهم في رحلة الخطر.
كان واحداً من أوائل من نشأ في بلاد غير بلاده، كان أبواه قد عزما على الرحيل عن الوطن، رحيل جعل منه ذلك الشاب الذي ما انفك عبير وطنه يسكنه يوماً بعد يوم، رسالته ستعرِّفه عن نفسه، هو ابن بطاقة إقامة "Carte de Séjour"، إنه "رشيد طه" ذلك الذي رحل عن عالمنا بخشوع كشخصيته الهادئة وبحة صوته الخجولة.
لعلني أخطئ إن قلت إن كلمات "يا الرايح" ما انفكت تلامس قلوب وعقول كلٍ منا، وما يدعوني لأكتب عن رشيد هنا هو بلا شك أن ما حاول التعبير عنه قبل ما يقرب من 20 عاماً لا يزال يلامس أرواحاً كثيرة، بل هو لا يزال يدمي عيون ملايين المشردين والمبعدين والمهجّرين. رشيد الذي عرف كيف يدخل لقلوب كل هؤلاء، ظل يعيش تلك الحالة من الاغتراب والحنين، هو لم يدرك ما إذا ندم فعلاً أو لا على مكوثه حتى رحيله هناك، تماماً كما كان يتساءل مع جمهوره (وأقصد هنا جمهور أقرانه من المهاجرين) عن جدوى الاستمرار في "الندم" كما سماه، وعن جدوى إفناء شبابه بين تلك البلاد العامرة بالفوضى والخلاء العاطفي.
ما يدعو للدهشة في تناول قصة رشيد طه برأيي هو تجربته في أداء موسيقاه الخاصة وإيقاعه الفريد الممتزج طبعاً بمذاق "الراي" الساحر. رشيد وأصدقاؤه من مغني الراي كانوا بلا شك خير رسل للثقافة المغاربية في المهجر، جيل المهاجرين الأوائل كما تطلق عليهم الصحافة والإعلام، كانوا شديدي الاهتمام بأسماء المدن والأحياء والأصدقاء وذكريات الطفولة، غنوا للعائلة كثيراً ولأمهاتهم أكثر وأكثر، كانت الأم في أغنية الراي بمثابة القديسة التي يُرجى منها البركة والرضا، كما تناولت أغاني المهجر قضايا المغتربين الاجتماعية الكثيرة مثل: (العمل، الحب، الخداع، الخيانة، المرض، العنصرية، الفقر، البطالة والسفر…).
ولعل ما حاولت معالجته أيضاً هو تعلق المغترب بمحبوبته في بلده، وكيف أن عامل البعد الجغرافي كان سداً منيعاً أمام تحقيق الأمنيات في التحصل عليها، يعيش المغترب في تحديه هذا متزعزع العاطفة، شديد الاشتياق لمجرد نظرة خجولة من محبوبته، معانٍ كثيرة جداً جسدتها ألحان الراي والأغنية المغاربية في المهجر تلفت الانتباه وتجذب كل حيران وملهوف.
"رشيد" الآن قل لي يا صاحب القبعة، لماذا كنت تشاركنا ليالي كثيرة بصوتك وحضورك؟ أخبرنا كيف كانت غربتك الطويلة وأنت تنصحنا بالعودة؟ ما وسيلتك التي ألِفْتها حتى تعتاد تلك الرتابة في الحياة بعيداً عن حياة الوطن؟ هل كنتَ حقاً مغبوناً داخلك وخبئت ذلك عنا؟ قل لنا فقط كيف لك أن ترحل بعلة في قلبك؟ هل غلبت ذبحة صدرك تلك ما يؤلمك في يدك؟ لعلني أثقلت عليك بالسؤال، لكننا نريد أن نطمئن ولو قليلاً على قلوبنا يا "رشيد"، على زَهْرنا وصُغرنا ونومتنا وسَفرتِنا وجمالنا، ولا أخفيك سراً.. على صبرنا أن ينخر فيه بعض جزع وفتور، وكما تعلم.. فالصبر رفيقنا جنباً إلى اليأس.
يا "رشيد" لا يهم إن كانوا "لا يمررون العرب في التلفزة" كما قلتَ، لكن أطمئنك تماماً أنك مررت إلينا رغم كل شيء، مررت لقلوبنا وأرواحنا، بل مررت في دندنات كلماتنا العابرة بين أيامنا التي مللنا عدَّها، محفوظة نصائحك لنا (بالرغم من عدم العمل بها) في قاموس كل المغتربين الحائرين، "يا الغايب في بلاد الناس شحال تعيا ما تجري"، "يا حليلو ومسكين اللي خاب سعدو كي زهري"، "يا النايم جاني خبرك كيما صرالك يصرالي"، "شحال ندمو العباد الغافلين قبلك وقبلي"..
سلام عليك يا "رشيد" وسلام لقلبك الذي عاش بطاقته ومقاومته حتى النهاية، شكراً لك من كل المهاجرين والمغتربين والحيارى، لقد آنست بصوتك وحشة أيامهم وربَّتَ ولو بشيء قليل على أرواحهم المهشَّمة وأجسادهم المتعبة وعيونهم الملآى ببشاعة ما حذرتهم منه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.