في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات، أنتظر أن تدمر إسرائيل البيتَ والمجتمع اللذين لم أعرف سواهما طوال 52 عاماً من حياتي. سوف يُجبر سكان قرية خان الأحمر الـ 180، وهي القرية التي أنحدر منها، والواقعة في الضفة الغربية -رجالاً ونساءً وأطفالاً- في القريب العاجل على الرحيل عن أراضيهم، من أجل توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية. سوف تُهدم بيوتنا، بل سوف تُسوَّى مدرستنا الابتدائية، التي بُنيت من لا شيء سوى الإطارات والطين، بالأرض كذلك.
أعزُّ الذكريات على قلبي هي ذكريات طفولتي التي قضيتها في خان الأحمر، فكثيراً ما كنت أخرج رفقة أصدقائي في نزهات إلى وادٍ قريبٍ، تملأه البرك والينابيع الطبيعية، كُنا نجلب معنا الطعام والشاي، ونمتطي الحَمير، ولدى وصولنا نسبح ونصطاد السمك ونُرفِّه عن أنفسنا، منعتنا إسرائيل عن زيارة الوادي منذ عدة سنوات مضت، وتريد منا الآن أن نترك منازلنا إلى الأبد، ونرحل مرة أخرى.
وعلى الرغم من أنَّ قرية خان الأحمر قد بُنيت في عام 1952، أي قبل وقتٍ طويلٍ من احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، فإنَّه ليس بإمكانك إيجادها على الخريطة. قدِم أهلي إلى خان الأحمر بعد أن أُجبروا على الرحيل عن قريتنا الواقعة في صحراء عراد عام 1948. ومثل العديد من القرى والمدن الفلسطينية الأخرى، دمَّرت إسرائيل قريتَنا بهدف فتح المجال أمام اليهود الإسرائيليين. لقد طُردنا من أرضنا، وأخبرونا أن نتصرف بأنفسنا حيال ذلك.
وهكذا شققنا طريقنا -من أجل أن نعيش- نحو خان الأحمر، المنطقة الصحراوية المتقوقعة بين مصدرين رئيسيين للمياه.
كان مسموحاً لخان الأحمر، التي كانت تحت إدارة الأردن في ذلك الحين، أن تنمو وتزدهر، فقد كان الأردنيون يعترفون بحقوقنا، لكنَّ كل شيء تغيَّر مع احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967.
فعلى الرغم من أنَّنا عشنا في خان الأحمر لـ67 عاماً، لم تعترف إسرائيل قط بحقنا في الوجود هنا. لقد فُرض علينا أن نعيش في أكثر أنواع المساكن بدائيةً (الخيام)، دون أن نتمكن من الحصول على خدمات المياه أو الكهرباء. وقد قوبلت محاولاتنا للعيش في الصحراء، عن طريق استخدام ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، والمضخات للحصول على الماء، بقمعٍ وتضييق إسرائيليَّيْن، إذ يصادر الجيش باستمرار الوسائل التي نستخدمها للعيش.
بل إنَّ إسرائيل شقَّت كذلك طريقاً سريعاً رئيسياً للإسرائيليين يمرُّ عبر خان الأحمر، ما جعل قدوم الزوار مستحيلاً، بالإضافة إلى استحالة قدوم خدمات الطوارئ اللازمة لمساعدة المجتمع.
وباعتباري ناشطاً وزعيماً مجتمعياً، من واجبي أن أضمن توفر السلامة والأمان لمجتمعي. عندما جاء الجيش الإسرائيلي لهدم البيوت في خان الأحمر لأول مرة، تلقيتُ نصائح بالسعي للحصول على موافقة من أجل نصب خيامنا، وهو ما أخذت به فعلاً.
ولكن، كما هو الحال مع جميع مجتمعات الفلسطينيين في الضفة الغربية، التي تقع تحت حكم الجيش الإسرائيلي، رفضت إسرائيل طلباتنا. وفي الواقع، لم تتخطَّ أعداد الفلسطينيين الذين منحتهم إسرائيل موافقة بالبناء الـ2%، أما تلك المنازل التي بُنيت من دون الحصول على إذن، فتقوم إسرائيل بهدمها مراراً وتكراراً.
وعندما لقي ثلاثة أطفال من خان الأحمر مصرعهم على الطريق الإسرائيلي السريع، بينما كانوا يحاولون الذهاب مشياً إلى أقرب مدرسة للقرية، التي تبعد مسافة 8 أميال (12.87 كيلومتر) عنها، سعيت على الفور للحصول على موافقة من إسرائيل لبناء مدرسة في القرية، حتى لا يُضطر الطلاب إلى القيام بتلك الرحلة المضنية والخطيرة، ولكن حتى هذا الطلب قد رُفض، لذلك أُجبرنا -عوضاً عن بناء مدرسة حقيقية من الطوب والإسمنت- على بناء واحدةٍ من الإطارات والطين.
تخدم المدرسة اليوم 185 طالباً، ينتمون إلى 5 مجتمعاتٍ متجاورة، وأتاحت أمام الطالبات الإناث -اللواتي كانت الكثيرات منهنَّ خائفات بشدة من القيام بالرحلة اليومية الخطرة- فرصةً لتلقي التعليم.
لا يجب أن يعيش هؤلاء الأطفال في خوفٍ من أنَّ مدرستهم ستُدمَّر. إنَّه لبطشٌ أن تقوم إسرائيل بهدم أمل هذا المجتمع الوحيد، يُبيِّن لنا هذا الأمر خُطط إسرائيل الحقيقية.
بعد نزاعٍ في المحكمة امتدَّ لما يقرب من عقدٍ من الزمن، وافقت المحكمة العليا في إسرائيل مؤخراً على طلبات قدَّمها الجيش والمستوطنون الإسرائيليون لتدمير مجتمعي. وفي حين يُطلب من الفلسطينيين الحصول على تصريحات بالبناء -وبالتالي نادراً ما تُمنح- تغاضت إسرائيل عن سرقة المستوطنين لهذه الأرض.
بل على العكس، شجَّعت الحكومة الإسرائيلية اليهودَ الإسرائيليين على العيش في المستوطنات، وهو ما يُمثِّل انتهاكاً للقانون الدولي، بما في ذلك مستوطنتان كبيرتان تقعان قريباً من خان الأحمر.
تمتلك هذه المستوطنات خدماتٍ للمياه والكهرباء، بل وحتى حمامات سباحة، ولا يضطر المقيمون فيها إلى القلق من أن يُطردوا من بيوتهم مثلنا.
يوجد اليوم ما يزيد عن مئة مستوطنة إسرائيلية غير شرعية في الضفة الغربية، وأكثر من مئة مستوطنة من النوع الذي يُسمى بـ "البؤر الاستيطانية"، التي يُمثِّل بناؤها انتهاكاً للقانون الإسرائيلي نفسه. وعوضاً عن إزالة تلك المباني، تمنحها إسرائيل موافقةً بأثر رجعي، مثلما فعلت مؤخراً مع بؤرة هافات جلعاد الاستيطانية.
في الواقع، لا تطبق إسرائيل قوانينها إلا علينا نحن الفلسطينيين، وليس ضدَّ المستوطنين. وبعد تمرير "قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل" مؤخراً، الذي يفرض على الحكومة أن تشجِّع وتروِّج للمستوطنات اليهودية، بما في ذلك تلك المُقامة في الأراضي المحتلة، يُمكننا أن نتوقع أن يُرحل عدد أكبر من الفلسطينيين من بيوتهم، وأن تُدمَّر مجتمعاتهم.
قد لا يبدو بيتي -بالنسبة للمراقب الخارجي- مهماً، وهو في الواقع ليس بيتاً فخماً. ولكن ببساطة، أنا أعتبره حِصني، وأنا مصممٌ على البقاء فيه. لقد ذهبت إلى واشنطن، ورأيت البيت الأبيض، لكن بالنسبة لي، أفضِّل -شخصياً- أن أعيش في خيمة بدوية.
لقد قضيت حياتي في العمل من أجل ضمان أن تعيش عائلتي ومجتمعي في قرية صالحة للعيش، تحتوي على كهرباء ومياه ومدرسة يذهب إليها الأطفال. كل ما نريده هو حقوقنا الإنسانية الأساسية، وأن نكون قادرين على العيش بحرية دون أن نُجبر على الرحيل عن بيوتنا. عندما يسألني أطفال خان الأحمر الآن عمّا إذا كانوا سيُجبَرون على ترك منازلهم والعيش في الشوارع، لا أجد إجابة أمنحهم إياها.
أنا أعرف أنَّ تدمير إسرائيل لمجتمعي هو جريمة حرب، فقد أخبرتني بذلك الأمم المتحدة، وجميع المحامين والممثلين الدبلوماسيين الذين قابلتهم، بل إنَّ 84 عضواً من أعضاء الكونغرس الأميركي قد أعلنوا دعمهم لخان الأحمر، وحثوا إسرائيل على عدم هدم بيوتنا.
ويبقى السؤال الحقيقي هو ما إذا كان العالم سيتحرك لمساعدتنا، أو ما إذا كانوا سيستمرّون في السماح لإسرائيل بتدمير منازلنا وحياتنا، وارتكاب جرائم حرب دون أن تنال عقاباً.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Forward الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.