في كل مرة كنت أودّع فيها ابني عند إيصاله إلى الحضانة العام الماضي، كنت أشعر بقلبي يتدحرج بين قدمي ليركض أمامي علَّه يلحق بخياله وهو يغيب عن ناظري، سعيداً غالباً أو حزيناً على فراقي، فأن تنجبي طفلاً يعني أن تجعلي قلبك يمشي بقدمين، لا تدرين بأيّ أرض يهيم.
هذا العذاب اليومي، وتلك الحالة النفسية غير السوية تمر بها ملايين النساء يومياً.
صراع عنيف كان يدور في خلدي: أن أضرب بكل شيء عرض الحائط، وأن أعود فأتلقف ابني وأضمه إلى صدري حتى يدخل بين أضلعي وأعيده إلى داخلي حيث أأمن وأدفأ مكان في العالم؛ حيث لا كلمة تقتل أو نظرة تجرح؛ حيث روحي تغلف روحه.
توطِّن كل أُم عاملة قلبها على أن تبلع تلك الجمرة كل يوم.. أدخلت ابني الروضة وهو في عمر العام والنصف وأخرجته بعد سنة، وسأبقيه معي عاماً آخر -مع أنني صاحبة عملي- فلا شيء في الدنيا كلها كان يستحق أن أفوت تأتأته البريئة، وأولى تجاربه، والتكور بدفء تحت السرير في الصباح ويديه الناعمتين تمران على وجهي.
عزيزتي.. من أجل ماذا ستُخرجين طفلك من عشك الدافئ، إلى البرد والمرض والعالم الكبير قبل الثلاث سنوات، ليقضي ٨ ساعات يومياً بعيداً عنك، وأنت في وظيفتك؟
صدقيني، لا شيء يعادل ضحكاته البريئة، وتكون شخصيته أمامك وتعلمه الكلام منك، هل تطيقين أن يفوتك أول مرة يشكل بها جملة، أو يرمي بها الكرة، أو يرسم تفاحة؟ أن تكوني معه عند شعوره بالحزن والغضب؛ لتعلميه كيف يتجاوزهما، وأن تدمني لمعة عينيه عند فرحه.
أعذريني، سأتحدث هنا عن حقوق الطفل في الحب والأمان والرعاية، فهي أهم من حقوق المرأة في العمل وإثبات الذات في هذه المرحلة، وكلنا نعرف أن نسبة إبداع الطفل تكون في أعلى مستوياتها خارج المدرسة، وشخصيته تتكوّن قبل الخمس سنوات.
قِفي أمام الجميع لتعلني أن طفلك أهم من النقود ومن الكماليات ومن المظاهر، لكن ما إن يدخل طفلك المدرسة ويتجاوز الأربع سنوات، ويكون قد عبّأ مخزنه من الحب والأمان، عودي مرة ثانية إلى سوق العمل إن أردتِ، وأشدد هنا على "إن أردتِ"؛ لأن الذي وضع أسس وقواعد عالم العمل هم الذكور الذين لا يعرفون ولا يقدرون، هم ذاتهم الذين يعودون من العمل متعبين حتى لو كانوا جالسين خلف مكاتبهم؛ ليجلسوا على المقاعد في بيوتهم ليحاسبوك على وظائفك في المنزل غير الواجبة عليكٍ، فيكفي المرأة شرفَ وجهدَ الحملِ والولادة، فما بالك بالرضاعة والسهر والتربية وتحمّل المسؤولية، إلى جانب أشغال المنزل؟ ففي اللحظة التي تحمل فيها المرأة بطفلها الأول تختلف حياتها كلياً إلى الأبد، أما الأب فعادة يحمل هذا الهمّ تدريجياً بالتعوّد والممارسة.
فإن كانت سوق العمل لا تحترمك كامرأة ولا تفتأ تبدي طمعها وجشعها في استهلاككِ حتى آخر نفس، ويغض الطرف عن كونك امرأة بيولوجياً، خلق الله جسمك بمواصفات خاصة لتستطيعي الحمل والولادة والرضاعة والرعاية في السنوات الأولى لطفلك، إن كانت سوق العمل تضرب بكل هذا عرض الحائط، أقول لك بالفم الملآن: إن أسواق العمل لا تستحقنا نحن النساء، نحن نمنحها جهدنا وتعبنا وولاءنا، وهي لا تفهم فكرة أن الدورة الشهرية تكون متعبة ومرهقة، لا تكونين فيها طبيعية على أبسط تقدير، هم ينتزعونكِ من طفلك وعمره 3 أشهر، وأنت خارجة من عملية قيصرية لتعملي في إمبراطورياتهم؛ لتركضي في مسار الفأر، أو ليرموكِ خارجه إن تباطأتِ.
يريدونك أن تجمّدي بويضاتك حتى سن الأربعين ثم تنجبين الأطفال، بعد أن يستهلكك المجتمع وتستعملك الشركات الذكورية لتربح على ظهرك.
يريدون أن يحرموكِ متعة الأمومة وحلاوةَ إنجاب الأطفال في شبابك لتكبروا معاً، بحجة إثبات الذات والنجاح، وكأنك كأم لست بذات قيمة تذكر؛ لأنك لا تخدمينهم، ولأنهم هم مَن يقيمون إنجازاتك ونجاحاتك.
أرجوك.. اغمري أطفالك حتى يتجاوزوا الثلاث سنوات، ثم أرسليهم إلى المدرسة.
لا تحرميهم منك من أجل مال زائل أو منصب مغرٍ، أنا أعرف جيداً أن عودتك إلى سوق العمل ستكون صعبة جداً، وأكرر في عالم أعمال ذكوري لا يأخذ بعين الاعتبار أن المرأة تختلف عن الرجل في طبيعتها، وينسى أن وجودها معه سيثريه، بمهارتها وذكائها؛ ليطور الشركات والمؤسسات، فهناك أكثر من دراسة أثبتت أن زيادة تمثيل المرأة في المناصب العليا في المؤسسات والشركات تزيد من أدائها العملي وإنتاجيتها بنسب ملحوظة، فالمرأة قائد فطري، وهي قمة في العملية ومهتمة بالتفاصيل، متعددة المهام وممتازة في التواصل الاجتماعي ومهارات الاتصال، ولديها ولاء وانتماء أكثر من الرجل.
ستسألينني: ما الحل إذاً؟ ماذا أفعل بطاقتي، وقدرتي ومهاراتي كامرأة وأنا أرعى أطفالي وهم صغار؟
أنا أقول لكِ: كوني مبتكرة، فكّري بفرص جديدة خارج الصندوق، لا تكونين فيها عبدة للشركات الذكورية، وستجدين أنك تستطيعين فعل الكثير، خاصة مع الانفتاح في العالم ووجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ستستطيعين أن تمارسي ما تحبّين، وأن تطورّي نفسك، وأن تدرسي، بل أن تحصلي على مردود مادي أفضل؛ لتحققي استقلالك المادي، لكن بشروطك أنتِ، حسب راحتكِ وراحة أطفالكِ!
فاسألي نفسك لتتأكدي من صواب قراراتك: هل عملك يستحق هذا الصراع وتلك التضحيات؟ هل تحققين فيه ذاتك؟ وهل يقدِّرون مواهبك وخبراتك؟ وهل تساهمين في تنمية المجتمع بشكل إيجابي كما تبررين لنفسك دائماً؟ هل لديك هدف واضح ورؤية مستقبلية؟ هل أنت مرتاحة في عملك؟ هل هو حقاً لا يؤثر على أطفالك ورعايتهم؟ أم أنك تعملين كآلة فحسب من أجل الكسب المادي ولقمة العيش أو البهرجة الاجتماعية؟
بالله عليكِ أجيبيني، حتى متى ستتحملين الشعور بالذنب الذي لا يفارقك ولا يبرح حتى يحرق جوفك، ذلك الذي لا تفتئين تحاولين تخديره بتبريراتك الواهية لنفسك؟ مَن يستحق كل هذا الجهد الجبار والصراع اليومي من فوضى المشاعر؟
من لديكِ أغلى مِن طفلك في سنواته الأولى؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.