انخرط القادة الفلسطينيون في عملية سلام مزيفة على مدى عقود، سعياً إلى تطبيق خارطة الطريق التي تبناها المجتمع الدولي لإنشاء دولة فلسطينية لسكان الضفة الغربية وغزة. في غضون ذلك، سعت الولايات المتحدة إلى الحفاظ على صورتها الأسطورية كوسيط أمين ومحايد.
نزعت إدارة ترمب أخيراً هذا القناع، وكشفت عن موقف واشنطن الحقيقي. وبقدر إساءة تصريحات البيت الأبيض المنحازة لإسرائيل بالنسبة للفلسطينيين، فإنها توضح الحقيقة القائمة.
حاول الفلسطينيون بكل الطرق تحرير أنفسهم من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي منذ عام 1967. استخدموا المقاومة المسلحة، ما أدى إلى تخلي الدول العربية عنهم، وتمهيد الطريق لاتفاقيات أوسلو. وعندما انتهجوا المقاومة غير المسلحة، اهتمت بهم وسائل الإعلام لكنهم تعرضوا أيضاً للسجن. وجربوا الاقتصاد النيوليبرالي، الذي جلب لهم أموال المساعدات والمقاهي اللطيفة في رام الله. واستخدموا الدبلوماسية عن طريق الانضمام إلى المنظمات الدولية وهيئات الأمم المتحدة كدولة ذات سيادة، فانهالت عليهم التهديدات من إسرائيل والولايات المتحدة.
توسطت واشنطن طويلاً في مفاوضات السلام تحت فرضية خاطئة بوجود طرفين متساويين يتنافسان على قطعة الأرض نفسها. عندما وصل الرئيس دونالد ترمب إلى السلطة، استقبله العديد من المسؤولين الفلسطينيين بحماس حذر، آملين أن يُترجم أسلوبه المزاجي والمتسرع في إبداء رأيه إلى انتصار لصالحهم. كانوا مخطئين تماماً.
عندما بدأت تظهر الشائعات المشيرة إلى أن ترمب خطط بالفعل لنقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس دعماً للادعاء الإسرائيلي أن المدينة هي "عاصمتها وحدها بلا منازع"، تهامس البعض أنه سيفتتح سفارة أميركية أخري في مكان ما في القدس الشرقية، لكن لم تكن هناك أي سفارة أخرى. وبدلاً من ذلك، أُقيمت مراسم متغطرسة أشرف عليها صهر ترمب ومستشاره جاريد كوشنر، وأربعة أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ، وعلى غير العادة، وزير الخزانة ستيفن منوتشين. على بعد 60 ميلاً فقط، اندلعت الاحتجاجات في قطاع غزة بسبب هذه الخطوة، حيث قُتل 58 متظاهراً سلمياً وأصيب أكثر من 2,000 آخرين على يد الجيش الإسرائيلي.
عقب ذلك، وجهت إدارة ترمب الدفة نحو وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، في 31 أغسطس/آب. لطالما كانت الولايات المتحدة شريان الحياة بالنسبة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لكن الإدارة قررت قطع كل المساعدات المقدمة إليها، واصفةً إياها بأنها "فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه" و"غير مستدامة".
أما القشة الأخيرة فتمثلت في إغلاق مكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، في وقت سابق من هذا الأسبوع، بحجة أن القادة الفلسطينيين فشلوا في إحراز تقدم في مفاوضات الوضع النهائي بخصوص القضايا العالقة مع إسرائيل، بينما كانوا يسعون في الوقت نفسه إلى محاكمة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. في الواقع، تعمل إدارة ترمب بجِد لتسوية قضايا الوضع النهائي لصالح إسرائيل، مثل الحدود والقدس واللاجئين. العقبة الوحيدة التي واجهوها هي إيجاد وسيلة للضغط على الفلسطينيين للقبول بهذا الوضع.
أوضح البيت الأبيض أنه مستعد لاستغلال المساعدات كورقة ضغط، ولم يُخف المسؤولون الأميركيون حقيقة أنهم يسعون إلى التأثير على الفلسطينيين من أجل إرغامهم على قبول "صفقة القرن للسلام" التي وعد بها ترمب منذ فترة طويلة.
وبالرغم من الرعب المسيطر على المسؤولين الفلسطينيين، إلا أنك إذا سألت الفلسطيني العادي عن رأيه، ربما يفاجئك رده. بالطبع، يعتبر إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية صفعة على وجه فلسطين، لكن هذا ليس انحرافاً في السياسة الأميركية، بل هو نتيجة منطقية لسنوات من محاباة إسرائيل.
من دون هذه الخلفية التاريخية، لم يكن ليغدو من السهل تقبل وقف تمويل الأونروا، ونقل السفارة إلى القدس، وإغلاق مكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية. في جميع الأحوال، كانت السياسات التي ضرب ترمب بها عرض الحائط هي عبارة عن تنازلات وقّعت عليها الإدارات السابقة. كل ما فعله ترمب هو الامتناع عن توقيعها.
أنشأت إسرائيل بالفعل حدودها خلال حربي 1948 و1967. ومنذ ذلك الحين، أقامت جداراً عازلاً، وشبكة معقدة من المستوطنات، وطرقاً مخصصة للمستوطنين فقط، ومناطق عسكرية مغلقة في الضفة الغربية تتحكم في كل جوانب حياة الفلسطينيين.
وبعد الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، فإن المستقبل الفلسطيني لا توجد فيه عاصمة ولا استقلال حقيقي ولا حق عودة اللاجئين، مما يعني أن أي دولة مستقبلية ستُولد ميتة. لقد ساعدت عملية السلام المزعومة في تقوية أسوأ الفاعلين وأكثرهم فساداً في المجتمع الفلسطيني.
لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية تمثل أغلبية الفلسطينيين منذ عقود، وهي الآن عبارة عن كيان قائم على حزب واحد. كان هذا من صنيع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. في الأسابيع الأخيرة، بينما انشغلت أنظار العالم في مكان آخر، اتخذ عباس سلسلة من الخطوات لتشديد قبضته على الهيئات الحكومية الفلسطينية. تولى منصب رئيس الصندوق الوطني، وهو بمثابة وزارة المالية في منظمة التحرير الفلسطينية، في مخالفة واضحة للنظام الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تنص على أن يتم انتخاب شاغل هذا المنصب من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، البرلمان الفلسطيني المنفي.
حرص عباس على التخلص من منتقديه القلائل المتبقين داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال تشكيل هيكل جديد يضم الأعضاء الممتثلين له. بجانب السيطرة على السلطة التنفيذية (يرأس حالياً أيضاً اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح الحاكمة، كما أنه رئيس السلطة الفلسطينية)، قوض عباس السلطة القضائية المستقلة، بإنشاء محكمة دستورية يمكنها رفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، من أجل إسكات منتقديه تماماً.
ظلت حملة القمع التي تمارسها قوات الأمن الفلسطينية ضد الصحافيين والناشطين المعارضين، مصدراً للقلق بالنسبة لجماعات حقوق الإنسان على مدار السنوات الأخيرة. الذين أشاروا أيضاً إلى تبني قوانين تنفيذية مثل قانون الجرائم الإلكترونية، الذي يمهد الطريق للاحتجاز التعسفي لمن ينتقدون السلطة عبر الإنترنت.
في ضوء هذه التغييرات، لن يفتقد الكثير من الفلسطينيين مكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية. أخيراً يمكن للناس رؤية الطبيعة الازدواجية لعملية أوسلو، والسياسة الاقتصادية والأمنية التي فشلت في تمكين غالبية الفلسطينيين، وجعلتهم أسوأ حالاً مما كانوا عليه.
في الواقع، يجد الفلسطينيون أنفسهم حالياً في موقف من الوحدة والعزلة، لا تأتيهم أي مساعدة من الأميركيين أو دول الخليج العربي أو الأمم المتحدة. وسوف يمتلئ مستقبلهم بنوع من الألم والبؤس، الذي أبعدته عنهم في الماضي المساعدات الدولية.
إلا أن خطوات واشنطن توضح الصورة كذلك. في استطلاع حديث للرأي، قال غالبية الفلسطينيين إنه إذا ما كشفت الولايات المتحدة عن خطتها للسلام، فمن المتوقع أن تكون لصالح إسرائيل. صار اتفاق السلام واضحاً تماماً، فالقدس أصبحت جزءاً من إسرائيل، وإذا أراد الفلسطينيون "قدساً" لهم، فستكون وراء الجدار الفاصل في أبو ديس أو قرية أخرى مجاورة. الجدار هو حدود إسرائيل. كما أن خطة الولايات المتحدة لحل منظمة الأونروا ستؤدي إلى إبعاد حق عودة اللاجئين عن طاولة المفاوضات، لأن صفة اللجوء لن يتم تمريرها عبر الأجيال.
أدركت إدارة ترمب أن الوقت قد حان لهذا النوع من الصفقات، مع تخلي المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى عن القضية الفلسطينية، وتحول اهتمامها إلى إيران. ومع تبلور الاستراتيجية الأميركية تحت حكم ترمب، أصبح من الواضح أن واشنطن تخطط لاستخدام أسلوب الضغط، لإجبار الفلسطينيين على قبول ما يتم إلقاؤه لهم من الفتات.
تخلص ترمب من أسلوب البيت الأبيض المعتاد في إطلاق وعود كاذبة بالسلام، والحديث عن حل الدولتين، وإدانة بناء المستوطنات، وغيرها من العبارات المبتذلة التي سمعها الفلسطينيون مراراً على مر السنين. وبدلاً من ذلك، قام هو ومساعدوه بتبني وجهات النظر الإسرائيلية بكل غطرسة. وهذا الأمر لا يثير الدهشة بالنظر إلى العلاقات الشخصية العميقة بين كوشنر والسفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، وبين إسرائيل ومستوطناتها.
في الوقت نفسه، يشكل الشباب الفلسطيني حوالي ثلث السكان، وعاش العديد منهم حياتهم بالكامل تحت حكم عباس، ولم يروا سوى وعود فارغة من الإدارات الأميركية المتعاقبة، ما دفعهم للبحث عن طرق أخرى، وتبنى البعض العصيان المدني، الذي لطالما أيدته العديد من قرى الضفة الغربية، سواء على المستوى الوطني أو حركات المقاطعة، وسحب الاستثمارات وتحريك العقوبات، التي حققت بعض النجاح رغم محدوديتها والعقبات الموجودة أمامها.
لكنهم دفعوا ثمن ذلك. منذ مارس/آذار، قُتل 179 فلسطينياً، معظمهم في مظاهرات في غزة. وتقف لقطات الشبان الفلسطينيين الذين قتلوا بالرصاص في تناقض صارخ مع مرتدي البزات في رام الله، الذين يتقاتلون على فتات الخبز السياسي، بينما يقترب عباس، الذي لم يحدد ولي عهده، من عيد ميلاده الثالث والثمانين.
التزمت قيادة السلطة الفلسطينية لفترة طويلة بعملية سلام لم يستفد منها سوى عدد قليل من النخب بين صفوفها، بينما رفضت الاعتراف بوجود طريق آخر للقضية.
ربما تكون تحركات ترمب ضد الفلسطينيين مثيرة للغضب، لكنها ليست سوى تراكم عقود من سياسة الولايات المتحدة الفاشلة أحادية الجانب.
أصبح لدى الفلسطينيين الآن، بعد تحررهم من سطوة المحاور الأميركي المخادع، فرصة سانحة لحفر مسارهم الخاص من خلال تبني منظمات شعبية، ودعم المؤسسات الفلسطينية المستقلة، التي لا تعتمد على المساعدات الدولية، وحشد مؤيدين جدد في جميع أنحاء العالم.
– هذه المدونة مترجمة عن مجلة فورين بوليسي الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.