نشأ في بيئة سلفية متشددة تؤله الحاكم.. ما الذي جعل سلمان العودة مُختلفاً عن شيوخ بلاده بالسعودية؟

عدد القراءات
687
عربي بوست
تم النشر: 2018/09/18 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/12 الساعة 11:25 بتوقيت غرينتش

عندما أعنون مقالي بقولي: (عن الشيخ سلمان العودة وإخوانه)، سيظن القارئ أنني أقصد إخوانه من العلماء والمفكرين في المملكة العربية، الذين اعتُقلوا ويحاكمون معه، وينتظرون ما ينتظره من الإعدام أو السجن.

والحقيقة أنني أقصد هؤلاء، لكنني لا أقصدهم وحدهم، بل أقصد معهم إخوانهم من العلماء والمفكرين والقادة في العالم العربي والإسلامي كله، الذين يحاكمون ويُعدمون، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا الحرية والعزة للإنسان في بلادهم، ووجّهوا النصيحة للحاكم، وأعلنوا اعتراضهم على بعض توجُّهاته، أو حتى لمجرد أنهم أبدوا تعاطفهم مع بعض القضايا العربية والإسلامية، التي تخالف توجُّه حكامهم وسلطاتهم.

القضية إذاً ليست قضية الشيخ سلمان العودة وإخوانه في المملكة فقط، لكنها قضية العلماء والمفكرين والقادة الحقيقيين في أمتنا الإسلامية كلها، الذين يلاقون أشد العنت والتضييق والسجن والتعذيب، وصولاً إلى الإعدام والقتل، وذلك حتى يعودوا إلى أماكنهم في القطيع السائر وراء الملوك والأمراء والرؤساء، القطيع الذي لا يرفع عينه إلا لينظر أين يرمي له حاكمه قوته، ولينظر كذلك عصا حاكمه ليتقيها، ويسير في الطريق من وراءه رَغَباً ورَهَباً، رغَبَاً في ما في يديه من قوت، ورَهَباً من ما في يديه من العصا. هكذا حال أمة الإسلام من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

في بنغلاديش تعدم السلطات الحاكمة قادة الجماعة الإسلامية هناك واحداً تلو الآخر.

وفي المملكة العربية تسجن السلطات العشرات من القادة والمفكرين، وتبدأ في محاكمتهم، ويوصي الادعاء بإعدامهم، وعلى رأسهم الشيخ سلمان العودة.

وفي مصر تسجن السلطات الآلاف من أهل العلم والرأي، وتحكم على العشرات منهم بالإعدام، وعلى رأسهم علماء ومفكرون وقادة.

 

هذا سعارٌ قد انتشر في الأمة الإسلامية كلها، والعجيب أن تتواطأ عليه كل الأنظمة أو جلّها، في حين أنه لمّا حدث مثيله في الخمسينيات والستينيات في مصر، هاجت الأمة كلها رفضاً وإدانةً وشجباً، واجتمعت على ذلك الأنظمة والشعوب.

أما اليوم، فكل الأنظمة متواطئة وكل الشعوب صامتة خائفة، ليشكل ذلك حدثاً استثنائياً في تاريخ الأمة كله، فلم تصل الأمة الإسلامية مجتمعة إلى هذه الحالة من الضعف والهوان أمام العدو الخارجي من قبل، ولم تصل إلى هذه الحالة من التواطؤ على علماء الأمة ومفكّريها ومصلحيها من قبل، ولم تصل شعوبها إلى هذه الحالة من الجبن والخور أمام أنظمتها الحاكمة من قبل.

حالة تاريخية ربما تشير إلى تغير تاريخي كبير قادم في الأفق.

 

الشيخ سلمان العودة كرمز أبرز لهؤلاء العلماء والقادة والمصلحين، هو أمة وحده، يستحق أن نتحدث عنه في مقالات ومقالات، بل في كتب وكتب.

أول ما يلفت الانتباه في حكاية الشيخ سلمان أنه نشأ في بيئة سلفية جامية مدخلية، يسيطر فيها الفكر الجامي المدخلي على المدرسة العلمية الشرعية في البلاد، ذلك الفكر الذي يقترب من تأليه الحاكم، وتنزيهه عن كل خطأ ونقص، ويرفض رفضاً قاطعاً الخروج عليه بالسلاح أو بالتظاهر والعصيان المدني، حتى وإن أتى بالموبقات، كما قال قائلهم مؤخراً: حتى ولو زنى وشرب الخمر على الشاشات في بث مباشر لنصف ساعة. بل ويرفضون نصحه في العلن، ولا يقبلون إلا أن يُسَرّ إليه بالنصيحة.

ويا للعجب، يقبلون أن يفجُر الحاكم في العلن أمام الأمة كلها، ويرفضون أن يُنصح في العلن كما فجر.

 

نشأ الشيخ سلمان العودة في هذه البيئة العلمية الفاسدة، لكنه رفضها عقلاً وقلباً، وسار مع مدرسة النصح للحاكم والاعتراض عليه، لكنه لم يستطع على مدار تاريخه إلا أن ينصح من وراء ستار، أو فيما بين السطور، خوفاً من بطش السلطات في بلاده. وفي النهاية لم يسلم منها!

 

هذه البيئة العلمية التي نشأ فيها الشيخ سلمان تميزت كذلك بالشدة في الرأي والأخذ بظاهر النصوص، إلى حد أن وصفهم البعض بالظاهرية الجدد.

لكن الشيخ سلمان خرج من هذه المدرسة إلى مدرسة التيسير والوسطية والمقاصد، وانضم إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يمثّل مدرسة التيسير والوسطية والمقاصد، الذي أسسه ويرأسه إمام الوسطية الشيخ يوسف القرضاوي.

 

لقد بدأ الشيخ سلمان حياته متأثراً بالبيئة التي نشأ فيها، فلحقته بعض الشدة والظاهرية في بداية حياته، وكان من أثرها أن رد على الشيخ محمد الغزالي وعلى كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) بكتابه (حوار هادئ مع الشيخ الغزالي)، ثم امتلك الشيخ الشجاعة بعد ذلك ليعلن ندمه على هذا الرد، وهو ندم في الحقيقة على المنهجية، منهجية الشدة والظاهر التي تأثر بها الشيخ العودة في بداية حياته.

 

البعض يصنف الشيخ العودة على أنه من مدرسة الإخوان المسلمين، والبعض يصنفه من المدرسة السرورية، وهي مدرسة مزيج من السلفية والإخوانية، والمتفق عليه أن الشيخ سلمان هو من المدرسة الإسلامية الكبيرة التي تجمع تيارات عدة، التي تنتهج الوسطية مع الجماعية والحركية، والنصح للحاكمين ومعارضتهم.

 

عندما نقرأ للشيخ سلمان العودة ونسمع له، نجد أنفسنا أمام عَلَم من أعلام الوسطية والاعتدال والوقوف مع الحق.

نراه في طريقة كلامه هاشاً باشاً هيناً ليناً، ونراه في مواقف حاسر الرأس يلاعب ويضاحك أبناءه وبناته، يصدّر لنا صورة مختلفة عن صورة العلماء والشيوخ في بلاد الجزيرة العربية، أولئك الذين يُعرفون أول ما يُعرفون بهيئاتهم وأغطية رؤوسهم وصمتهم وغلظة وجوههم.

لا ننسى له أبداً مقاطِعَه المصوّرة وهو يمشّط شعر بناته الصغيرات، لينشر في الأمة معاني الرفق والود والحب، دون أن يتكلم، وبطريقة أبلغ مِن كل الخطب والمحاضرات.

 

يوم أن كانت الحادثة التي توفي فيها وَلَدُه وزوجته، خرج الشيخ سلمان علينا صابراً محتسباً.

وكتب حينها مقالة في توديع زوجته تفيض رقة وحباً وحناناً ورفقاً، وذلك أيضاً على غير الصورة التي صدّرها لنا علماء هذه البلاد في التعامل مع النساء والزوجات.

وقد لاحظت حينها أن الشيخ سلمان لم يكتب في ابنه الذي مات مع زوجته في نفس الحادثة، وقلت: إن مردّ هذا إلى أحد أمرين: فإما أنه لم يستطع أن يكتب عن ابنه وذلك لأن المصيبة في الولد أكبر بكثير من المصيبة في الزوجة، وإما أنه أراد أن يكتب في زوجته خاصة ليكون كما عوّدنا إماماً يعلّم الناس حب الزوجة وعِظم قدرها، وأما عن قدر الابن فالجميع يعلمه فطرةً وجبلّة.

 

كنت أُسائل نفسي: هل سينتهي دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بعد موت الشيخ القرضاوي أطال الله عمره، وذلك لأن الشيخ القرضاوي هو مؤسسه ورئيسه، والشخص الذي يدور حوله الاتحاد كله.

وقلت: لا بد أن يبقى ذلك الاتحاد، وإني لأرى الشيخ سلمان العودة أحق الناس برئاسته بعد الشيخ القرضاوي، وهو الآن نائب لرئيسه.

فالشيخ سلمان إمام مثل الشيخ القرضاوي، ولا يقلّ عنه، اللهم إلا في غزارة المنتج المكتوب، وهذه مما لا ينافِسُ فيها أحدٌ الشيخ القرضاوي في هذا الزمن المعاصر.

 

بادرت السلطات الحاكمة في المملكة باعتقال الشيخ سلمان والتوصية بإعدامه، ليستكمل الشيخ سلمان رمزيته في هذه الأمة، كواحد من أهم رموز الوسطية والاعتدال والمقاصد، والوقوف مع الحق ومع قضايا الأمة، وعدم الخنوع والاستسلام للحاكمين إلى حد تأليههم والعبودية لهم، ومناصحتهم ومعارضتهم، ودفع الثمن في سبيل ذلك، ابتغاء ما عند الله من المثوبة والأجر.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

راجي سلطاني
كاتب مصري
تحميل المزيد