كنتُ في أحد المقاهي مع صديق قديم نتبادل الأحاديث، ثم انجرف بنا الحديث إلی السوشيال ميديا، ووجدته يعلن اندهاشه من شغفي وولعي بتطبيقاتها المختلفة، وكذلك يفصح عن تعجبه من كمّ الساعات المهولة التي أقضيها في متابعة كل شيء يخصّها، وكيف أنني أستطيع ببراعة التوفيق بينها وبين الدراسة بالكلية والعمل والخروج والسهر وممارسة حياتي بشكل طبيعي، صمتَ قليلاً ثم سألني عما تعنيه السوشيال ميديا بالنسبة لي، وبالطبع توقع أنني سأجيب بأنها صديقي الوحيد ومُنقذي في أوقات فراغي وملكوت آخر يعجبني العيش فيه كما اعتدت أن أدَّعي، ولكن الإجابة اختلفت هذه المرة؛ حيث كنت أكثر صراحة معه، أو بالأحری مع نفسي، فدون وعي وجدتني أقول إن السوشيال ميديا هي أخطبوط له ثماني أرجل، وكل رِجل تمثل Application مختلفاً، فالرِّجل الأولی تمثل الـFacebook والثانية تمثل الـInstagram والثالثة تمثل الـWhats App، وأما عن الرابعة فهي تمثل Twitter والخامسة تمثل Snapchat والسادسة تمثل Skype والسابعة تمثل الـYoutube والثامنة تمثل Behance، تقترب من ذلك الأخطبوط رويداً رويداً رغبة في استكشافه، غير آبه بحبره الذي قد يتطاير عليك في أي لحظة، تمسك بك رِجل فتلحق بها الأخری حتی يتملكك الثماني أرجل باحترافية ولا تستطيع الإفلات منها، ثم يصب الأخطبوط حبره عليك في مكر وتظل فترات طويلة تحاول النفاذ بلا أدنی قدرة ممكنة.
استرقت النظرات لأعين صديقي أثناء الحديث فوجدت عينيه محملقتين وكأنه لم يكن ليتوقع أبداً تلك الإجابة، يدل عليه أنه كان يظنني سعيدة بقدرتي الخارقة علی التوفيق بين حياتي وبين السوشيال ميديا؛ في الواقع عيناه المحملقتان أخمدتا رغبتي في الاستزادة في الكلام، لكني سرحت لملكوت آخر، وبتُّ أردد أنني لست سعيدة بالمرة، بل إن السوشيال ميديا دمَّرت حياتي، وكل محاولاتي للتفاعل مع السوشيال ميديا ما هي إلا محاولات بائسة للحفاظ علی ما تبقَّى لي من تلك الحياة.
سرتُ يومها في شوارع القاهرة أشعر بغصة في حلقي وشعور مخيف بعدم الرغبة في العودة للمنزل، لكني غرقت في بحر الذكريات، في محاولة منّي لأن أمسك بطرف الخيط لأجيب علی تساؤل أثاره صديقي في عقلي: "متى كانت أول مرة أمسكت بي الرِّجل الأولی للأخطبوط؟! وماذا كانت تلك الرِّجل أصلاً؟! وكيف تسللت بعدها الأرجل الأخری واحدة تلو الأخرى؟!".
في الواقع بدأت إدماني للسوشيال ميديا بالـFacebook، في الواقع مرة أخری كانت حياتي خالية من الأصدقاء وكان شيء ما ينقصني لم أعرف يوماً ما هو إلا حين أخبرتني إحدى زميلاتي عن شيء ما يدعی الـFacebook ولم يكفِها إخباري بل طلبت منِّي أن تفتح حسابها الخاص عبر هاتفي النقَّال، وكان بالطبع لديَّ إنترنت لا أستعمله مطلقاً إلا حال الرغبة في البحث عن شيء عبر جوجل، فلم أبدِ أي اعتراض علی رغبتها تلك، ولم أكن لأعلم أن رغبتها ستصبح نقطة تحوُّل في حياتي فيما بعد؛ إذ إنها ولسوء حظي نسيت إغلاق حسابها عقبما انتهت من التصفح، وبالتالي تسلل الفضول إليَّ فجعلني طوال الليل أقلب في ذلك الحساب في محاولة منّي لفهم طلاسم هذا الشيء الذي يدعی Facebook، وفي صباح اليوم التالي عزمت علی إنشاء حساب خاص بي، ولم يكن الأمر بالغ الصعوبة بل كانت الصعوبة الحقيقية هي محاولة اكتساب أصدقاء عبر هذا الشيء.
فاكتسبت ويا ليتني لم أكتسب، كنت كالمجنونة أهم بإضافة كل شخص يقع أمام عيني، ثم بعدها أمتنع عن الحديث معه بحجة أنني لا أحادث الشباب الغرباء، كنت في الصف الأول الثانوي حينها فكان ذلك التفكير طبيعياً لمرحلتي العمرية أو هكذا أظن، المهم أنني حينما استطعت تفكيك شفرات ذلك الـacebook حذفت جميع الأصدقاء وبدأت أضيف زملائي في المدرسة، وأصبحت أدوِّن كل شيء عن حياتي أولاً بأول يوماً تلو الآخر حتى أصبح ذلك شيئاً روتينياً في يومي، وبتُّ أشعر أن شيئاً ما ينقصني حين يمر يوم دون تدوين، وهكذا تملكتني رِجل الأخطبوط الأولی ثم صار بعدها كل شيء يحدث تلقائياً كالخيط الذي انفكت عقدته فبدأ ينسدل سريعاً حتى خرَّ كله!
أقصد أنني بدأت رويداً رويداً أندمج في مواقع التواصل الاجتماعي واحداً تلو الآخر وكل منها لسبب مختلف تماماً عن سابقه، فواحد أضع صوري عليه وواحد أدوّن عليه أفكاري، وآخر أدوّن عليه الجزء التافه لشخصيتي، ولربما أعبر فيه عن حبي الشديد للمانجا وكرهي الأشد للحليب مثلاً وغيرها أسجل عليه لحظات يومي بالصور والفيديوهات وهكذا!
أصبحت أقضي معظم وقتي تنقلاً بين موقع لآخر، وحينها فقط أحكم الأخطبوط قبضته عليَّ، وأصبحت أعيش في عالم آخر غير عالمنا، عالم افتراضي صنعته أنا وساعدني الأخطبوط في بنائه، عالم كنت أخدع نفسي دوماً وأخبرها أنه أفضل كثيراً من عالمنا البائس هذا، فكنت دائماً أهرب من كل شيء وألجأ للأخطبوط.
حتی إنني أصبحت مصابة بالشيزوفرينيا، فعلی مواقع التواصل الاجتماعي أنا شخص عاقل جداً، حكيمة، أحب مساعدة الآخرين ويعجبني التدخل لحل المشكلات، وأما على أرض الواقع فأتعامل بطفولية، ويتهمني البعض بالجنون، لا أعترف بوجود الناس ولا أشعر بوجودهم أصلاً؛ لأنني اعتدت أن المكان الطبيعي للبشر هو خلف الشاشة فقط لا غير، فبات عقلي لا يقبل بوجودهم أمامها.
المهم أنني بعد وصلة الذكريات المؤلمة تلك جلست علی أحد الأرصفة أبكي بحرقة، ولا أعرف السبب، لكني تذكرت الماضي لوهلة، وتذكرت كيف سلبت السوشيال ميديا حياتي، تذكرت كم مرة دوَّنت فيها عن شيء يحرق قلبي بدلاً من الحديث مع أحدهم. تذكرت كم مرة كان شاغلي الأكبر هو التقاط صورة جيدة لأضعها ليلاً على الـInstagram بدلاً من الاستمتاع بخروجة الصباح.
تذكرت كم مرة أساء شخص فهمي؛ لأنه أو لأني لا نستطيع التعبير عما يدور بخواطرنا كتابة، تذكرت كم ساعة ضاعت وكم من يوم فات في هراء، تذكرت أنني لم أعِش حياتي كما كان ينبغي أن أعيشها.
وعقب عدة دقائق من الحسرة أدركت أن الجلوس علی الرصيف هكذا لن يُجدي نفعاً، فانصرفت أجرّ أذيال الخيبة، وعدت إلی منزلي بسرعة البرق فما كان منّي، إلا أن أقف أمام المرآة وأتساءل "مَن أنا؟!"، كنت وللمرة المليون أشعر أنني لم أعُد أنا، بل شخص آخر تائه.. خائف مما فات، ومما هو آتٍ.
ظلت عيناي تطرحان سؤالهما: "مَن أنا؟" أمام المرآة أكثر من مرة، لكني لم أنبس ببنت شفة، لم تسمع أذناي أي رد، ولم يشعر قلبي بأي إجابة، فهكذا دمَّرت السوشيال ميديا حياتي، حتی إنني أصبحت لا أعرف مَن أكون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.