الموسيقى لون الحياة، تلونها بالرمادي تارة والبنفسجي تارة والأسود تارة، والوردي تارة والفيروزي تارة أخرى.. نسمع الموسيقى فنصمت مثل طفل صغير قدمت له هدية لم يرها من قبل فيصمت وينكب عليها مكتشفاً، الكبار كذلك يصمتون عندما تتحدث الموسيقى احتراماً للناي والعود والكمان والبيانو والقانون والأنامل التي تعزف ذهباً وفضة وألماساً..
فيروز.. ذلك الصوت الذي يخرج من حنجرة لم تعرف خامتها لحد الساعة، كل ما نعرف أنها شرّفت الأرض بقدومها منذ واحد وثمانين سنة وبضع ساعات.. لو كانت والدتها التي صرخت من ألم الولادة لساعات تعلم أنها ستنجب فيروزاً لضحكت من الألم..
هناك أشياء تحدث مرة واحدة في الحياة كلها، الكاتب الروسي دوستويفسكي لن يتكرر إبداعه مطلقاً، وبيتهوفن وبيكاسو لن يتكررا، إينشتاين لن يتكرر، فيروز كذلك لن تتكرر..
ذات مرة انساب صوتها رقراقاً عذباً من مذياع سيارة الأجرة التي كنت أستقل، أخبرني السائق العجوز دون أن ينظر إلي "كنت شاباً في السبعينيات من القرن الماضي، كنت كلما سمعت صوتها فرحت وحزنت في نفس الوقت. وما زال نفس الإحساس يعتريني رغم أنني صرت عجوزاً.." سكت لبرهة ليكمل "أتدرين يا بنيتي.. لا أدري هل السيدة فيروز ماتت أو مازالت على قيد الحياة، لكني متأكد أنها لن تموت مادام صوتها يذاع.."
فيروز، ذلك الحجر الكريم الغامق المائل إلى زرقة الليل وهي تنعكس على العيون الساهرة.. تلك الروح البهية التي لا يمكنها أن تكتم إحساساً.. سواء أكان فرحاً أو حزناً أو حنيناً أو شوقاً، تلك السيدة ذات العينين الحزينتين والشعر الكستنائي، والأنف المستقيم، والنظرة الثاقبة الحزينة الصامدة والجسد النحيف الذي يقف شامخاً آذناً لصوت عبقري ذي شخصية باجتياح آذاننا وقلوبنا وأرواحنا.. اجتياحاً جميلاً جداً.. وكأن لصوتها عينِه روحاً مستقلة عن تلك الروح التي تسكن جسدها..
فيروز، ذلك الكائن الذي يحملك بين طيات الزمن، فيعود بك إلى الماضي، إلى الحب الأول، إلى النظرة الأولى والهمسة الأولى والخيبة الأولى والفرحة الأولى.. وكأن صوتها كُتب ليزرع في قلوبنا الحنين لكل شيء، لحب عشناه، لحي عشنا فيه، لشادي.. حب الطفولة، لزهرة المدائن، للقدس، للزعل الذي طال بيننا وبين الحبيب، للحبيب الذي مازال على بالنا، للناس الذين كانوا ينتظرون أناساً على المفرق وهم يحملون شمسية، للحيطان التي ضجرت منّا ومن حزننا، للأبواب المغلقة، للحنين الذي لا نعرف لمن نُكنه، لستِّي، للبنان والأرز والشام والعراق، للطاحون قرب نبع الميّ، للثلج والأجراس، للحبيب الذين أحببناه في الصيف والشتاء وأنسانا النوم.. للعشق الذي دقّ الباب فأجابه القلب "راجعين ياهوى راجعين.."، للّيل والوعود الكاذبة والصادقة، للورد والدمع والأم..
لكل شيء جميل ويائس فينا، للروح التي تعتنق الأمل رغم النكسات..
لو لم تكوني أنت يا سيدتي في حياتي لكنت إنسانة أخرى، فاتها الكثير لأنها لم تزامن فيروز.. ولم تسمع لفيروز وهي تغني من روحها وقلبي.. وتلون الكون بألوان جميلة كالفيروز الأزرق المائل إلى لون الحياة..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.