في الليلة التي سبقت هذا اليوم، نمت نوماً سيئاً وغير كافٍ. لم أتمكن من إغلاق التلفاز وشاهدت لساعات لقطات مرعبة متنوعة على قناة سي إن إن: ألسنة الدخان الكثيفة، والرماد الذي يتطاير مثل النشارة، والمعدن المحترق، والناس، الكثير من الناس، يلقون أنفسهم من البرجين التوأمين، مُبحرين إلى موتهم مثل أوراق شجرة تتساقط في الخريف.
كنت في ثاني أسبوع دراسي في جامعة بنسلفانيا في ذلك الوقت. كنت أعيش في سكن جامعي، كنا نملك ذاك التلفاز القديم، صغير الحجم ذا الظهر الكبير والشاشة المكسورة. عدت إلى غرفتي مساء الـ 11 من سبتمبر/أيلول، كان يوم الثلاثاء، تركت الباب مفتوحاً على مصراعيه، شغلت التلفاز. دخل زملائي الستون المقيمون كلهم بشكل تدريجي، كان معظمهم طلاباً جدداً، وكثير منهم كانوا يخوضون تجربة الاغتراب لأول مرة.
جلسنا القرفصاء على الأرض ونحن نشاهد التلفاز الصغير لساعات. كنا مخدرين وصامتين لدرجة أن تراكم الأشياء التي لم نقلها كان يلقي بثقله على الهواء ويشق الأجواء ليبدأ شخصٌ ما بالنحيب.
عندما حان وقت الذهاب إلى النوم، سأل البعض إذا كان بإمكانهم النوم في غرفتي. أتذكر إخراج الأفرشة الاحتياطية، وبسطها لمواجهة البرد، في الطابق الأرضي، ومشاهدة الأطفال وهم يستلقون بمحاذاة بعضهم البعض، كانوا يبدون أصغر سناً. كانوا يقتربون من بعضهم البعض، كما لو كانوا يبحثون عن الدفء. أو كما لو كانوا حيوانات صغيرة تتشارك ملجأً.
لا أتذكر أنني نمت في تلك الليلة، لكني أتذكر صباح اليوم التالي. لكنني أتذكر بوضوح أنني فتحت بابي ووجدت أن واجهته الأمامية قد خربت، كُتبت الكلمات بحبر أسود وبخط عريض. قالوا لي، بعبارة لا لبس فيها، إنني ملامة على ما حدث؛ ويجب أن أعاقب عليه.
واصلت الانهيار، في الأيام التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
هذا ما قصدته بقولي أنني أصبحت مسلمة في ذلك الصباح. ربما ولدت في عائلة معينة، وفي لحظة معينة، وتربيت بطريقة معينة، ولكن ذلك لم يحدث حتى رأيت واجهة بابي بعد انهيار البرجين التوأم، وبدأت أفهم من أنا في العالم والمكان الذي أشغله. أدركت بطريقة لم أعهدها من قبل أنني كنت أعتبر شخصاً مختلفاً.
وليس اختلافاً حميداً لقد كان اختلافاً ضاراً. كنت شخصاً مشبوهاً به. وكنا جميعاً مشتبهين بهم وقتها.
بالطبع، لم أكن أستطيع فهم البعد الكامل لذلك في ذلك الحين. لم أكن قادرة على توقع ماذا سيأتي في الأشهر والسنوات التي ستتلو ذلك الحدث: الدخول في حروب، وإسقاط الطغاة، والبحث عن أسلحة الدمار الشامل، والتصنيف، وغوانتانامو، وكل جرائم الكراهية؛ الآلاف والآلاف من جرائم الكراهية. ولكن بالرغم من ذلك، حتى في تلك، اللحظة الجديدة غير المألوفة التي لم أكن أملك فيها سوابق شخصية، كان بإمكاني أن أشعر بأن الأرض التي أقف عليها لم تكن ثابتة ولم تعد تمثل مرتكزاً وضماناً بالنسبة لي بعد اليوم. وأن الأوضاع ستتغير من الآن فصاعداً.
عائلتي تركية. جئت إلى أميركا للدراسة بجامعة ماريلاند. ولا تظهر علينا سوى مظاهر فضفاضة من الإسلام وأحياناً لا يظهر منه أي شيء على الإطلاق. في الواقع، أول فكرة خطرت ببالي بعد رؤية الواجهة الأمامية من بابي كانت "ولكن كيف عرفوا أنني مسلمة؟" تبعها مباشرة "إذا حدث هذا لي، فمن يدري ماذا سيحدث للآخرين، الذين يصلون ويرتدون الحجاب".
استمررت في الانهيار في الأيام التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول. وجاءت المشاعر من تلقاء نفسها على شكل موجات مفاجئة سريعة: انتابتني مشاعر الغضب، والذهول، والذنب، والحزن، والارتباك، ومشاعر أخرى قوية، وغريبة ما زلت لا أمتلك حتى الآن المهارات اللازمة لتعريفها. كنت قد التحقت بجامعة بنسلفانيا للحصول على شهادة متقدمة تساعدني في كسب الكثير من المال. والآن، لم يعد المال مهماً. وكذلك محاضراتي.
أخبرت عميدة المنزل (اليهودية) عن حادثة الباب بعد فترة وجيزة من وقوعها. وشجعتني على الفور بالقيام بتجمع. وقالت "لنر إن كان هناك آخرون يريدون التحدث عما يمرون به"، وبفضل مباركتها، والدعم المادي من المنزل، تمكنت من شراء كمية كبيرة من البيتزا، وأرسلت رسائل بريد إلكتروني جماعية في جميع أنحاء الحرم الجامعي، وطلبت القيام باجتماع مع الأشخاص الذين تم استهدافهم.
كتبت في الرسالة بكل حماس، "تعال إلى هيل هاوس! لقد طلبت أطناناً من البيتزا!"، لكن لم يأت أحد. واضطررت إلى التبرع بصندوق مليء بالبيتزا.
في نهاية المطاف، كتبت أطروحة حول أن يكون المرء من ذوات البشرة البنية في الحرم الجامعي. وأثناء القيام بهذه العملية، اكتشفت العديد من قصص الكراهية. علمت عن الطفل السيخي الذي تعرض رأسه للكسر باستخدام مزهرية. ورأيت دور العبادة المجاورة التي تعرضت للحرق لدرجة أنك لا تستطيع التعرف عليها، والصليب المعقوف مرسوم بخط عريض ولا يزال مرئياً تحت السخام.
في ذلك الوقت، لم يكن هذا النوع من جرائم الكراهية يُناقش بشكل علني أو منتظم أو يحظى بالقدر الكافي من الأهمية. لم تكن كلمة "حليف" شيئاً يقوله الناس – على الأقل، ليس بالقدر الذي نقولها اليوم.
لقد مرت 16 عاماً منذ ذلك الحين. وأصبحت الأمور مختلفة الآن، ولكن في بعض الأحيان أنسى. أنسى أنه لا يجب أن أكون خائفة لتلك الدرجة، وأن أصبح محطمة بعد الآن. لقد نسيت أمر الحفاء الكثيرين والأقوياء والمؤثرين. أحياناً أنسى شعوري بالأمان، والحماية، والآن بعد أن أصبحت أخيراً، أميركية بشكل قانوني، ويمكن أن أدعي حصولي على بعض الحقوق. أنسى هذا أحياناً.
في أحد أيام الشتاء الماضي على وجه الخصوص، عندما نسيت. سافرت أنا وعائلتي في رحلة جوية من الغرب الأوسط للاستمتاع بأيام قليلة من الشمس في فلوريدا. انتهت عطلة نهاية الأسبوع وكان الوقت متأخراً.
كنا في مرأب للسيارات تابع لمتجر بقالة عندما ضغطت على الراديو بمحض الصدفة وسمعت الأخبار. لقد أصدر الرئيس ترامب للتو أمراً تنفيذياً يمنع المسلمين من السفر إلى الولايات المتحدة. أو ربما لم يفعل. ربما لم يكن "حظر السفر" ذلك مفروضاً على المسلمين -أو ربما كان كذلك- لكن في كلتا الحالتين، غطت الأخبار دواخلي بطبقة ثقيلة من الفزع. كان الشعور مألوفًا للغاية. كنت أعرفه جيداً. رفعت النوافذ بشكل تلقائي من أجل الحصول على بعض الخصوصية واستدرت إلى عائلتي.
قلت، "لا نحمل جوازات سفرنا معنا الآن، لا نستطيع إثبات قانونية وضعنا".
وبينما بدأ محرك السيارة بالعمل، بدأنا في التساؤل بصوت عال إن كان السفر داخل البلاد فكرة جيدة. هل تركيا على القائمة؟ وتساءلنا عما إذا كنا سيطلب منا تقديم وثائق. هل سيتم احتجازنا في المطار أو استجوابنا أو الاستفراد بنا؟ وبمن سنتصل في حال ما تعرضنا للاعتقال؟
ألقيت ببصري إلى الأسفل، إلى حذائي الرقيق الواهي وأمسكت بيدي بقوة زجاجة باردة من مشروب الـ كومبوشا، التي بدت لوهلة باهظة وغريبة ولافتة للانتباه. شعرت أنني غريبة. مثل شخص أجنبي، وشعرت أنني لست مواطنة أميركية تماماً. شعرت أنني مجرد شخص اعتنق الإسلام في الـ 12 من شهر سبتمبر/أيلول عام 2001 وبالتالي قد يتعرض وضعه القانوني وممتلكاته للمساءلة -سيتعرض للمساءلة حتماً- بشكل مستمر ودون أجل محدد على الرغم من ولاءاته الثابتة والراسخة التي تملأ قلبه. أغلقت المذياع وقدت السيارة عائدة إلى الفندق في صمت تام.
في الصباح التالي كنا من أوائل من قدموا إلى المطار في مدينة فورت لاودردال. لم يكن الظلام قد انقشع بعد، عندنا دخلنا بسيارتنا المستأجرة في مرآب السيارات التابع للمطار، وتركنا المفاتيح في مكان التشغيل. لقد كنا متوترين وصامتين، لكننا كنا معاً. كنت قد حفظت رقم الاتحاد الأميركي للحريات المدنية في هاتفي وحذفت عدة تغريدات تدل على نقدنا للرئيس ترمب. عند بوابة الأمن سملت رخصة القيادة الخاصة بي بأصابع مرتعشة قليلاً.
نظرت إليها موظفة المطار المبتهجة بتلقائية وإلى تذكرة سفري.
وقالت بوجه تعلوه ابتسامة حتى بدت أسنانها الأمامية، "مينابوليس! ستفتقدين طقسنا الجميل في فلوريدا".
فقلت نعم سأفتقده، وابتسمت ابتسامة خفيفة، وكان هذا كل شيء. وأشارت لنا بالعبور. كانت الرحلة سلسة، وعندما وصلنا إلى مينيابوليس، كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظرنا: فقد تجمع الآلاف في المطار، يلوحون ويحملون لافتات مكتوب عليها "لا للحظر"، "لا لبانون"، "أنا أدعم المسافرين المسلمين". لقد كان مشهداً عظيماً وغير متوقع على الإطلاق.
بالرغم من ذلك، لم نصدق أنا نجونا إلا ونحن داخل منزلنا. كنا آمنين. قلنا لبعضنا البعض في غرفة المعيشة، "لقد انتهى الأمر". واخبرت عائلتي أنني "أحبهم جداً".
في تلك الليلة، خلعت ملابسي ودخلت إلى الحمام. عندها فقط بدأت في البكاء. قلت لنفسي، نحن بخير. لا بأس، ثم قلت بصوت عال: كل شيء بخير.
لأنني أحياناً ما أنسى.
– هذه المدونة مترجمة عن موقع medium
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.