تعرض لكثير من الانتقادات "غير البناءة" لحديثه باللسان الفصيح واستخدامه مفردات واستعارات "غريبة" بعض الشيء، كونها منتقاة من عمق اللغة العربية الأصيلة، ناهيك عن اتكائه على القرآن الكريم والتاريخ والحضارة والتراث في كثير من الخطابات والأحاديث الرسمية، سواء كانت في التجمعات الدبلوماسية أو اللقاءات الجانبية، ما دعا الأوساط الشعبية إلى وصفه بـ "كونفوشيوس العراق"، إنه وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري.
كونفوشيوس يعد أول فيلسوف صيني يفلح في إقامة مذهب يتضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي، وكانت فلسفته قائمة على القيم الأخلاقية الشخصية وذات تأثير عميق في الفكر والحياة الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية، وتدعو لأن تكون هناك حكومة تخدم الشعب تطبيقاً لمثل أخلاقي أعلى.
ولعل استخدام الاستعارات "المعقدة" في الخطاب التي يعتقد البعض أنها ضبابية ولا تنفع في العمل السياسي، وراء تعمد الأوساط الشعبية والنشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي، تشبيه الرجل بـ "كونفوشيوس العراق".
منذ تولي الجعفري زمام ملف الخارجية، استطاع أن يمسك العصا من المنتصف في مختلف أزمات المنطقة، ويقترب من الجميع وفق ما يتلاءم مع مصلحة العراق، ووازن في العلاقة بين العرب والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ونبذ سياسة المحاور، ورفض التبعية لهذا الطرف أو ذاك، وركز خلال فترة قتال التنظيمات الإرهابية على أنّ العراقيين يخوضون الحرب ضد "داعش"، نيابة عن العالم، واتخذ الحياد في الأزمة الخليجية مع قطر، ووقف بوجه سفير الرياض "ثامر السبهان" عندما حاول حشر "أنفه" في الشؤون الداخلية لبغداد، وأعطاه أوراقه في يمينه ورحله إلى بلاده، ونجح في تحويل اللقاءات مع دبلوماسيين وسياسيين ورجال دين إلى منبر للتفاهم الفكري، وطوع الكثير من المواقف المتصلّبة ضد البلاد، إلى وجهات نظر لصالحه.
مراقبون يعتقدون أن عودة العراق للحضن العربي والخليجي وانفتاحه على الدول الإقليمية والاتحاد الأوروبي، تعود لتبني الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا لحكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي وليس لعبقرية السيد الجعفري.
قد تكون آراء أولئك المراقبين صحيحة إلى حد ما، لكن مواقف وخطابات الرجل الجعفري ستبقى شاهدة على وطنيته وجرأته في طرح رأي العراق وموقفه في مختلف الكرنفالات والتجمعات العربية والعالمية في زمن كان الأخطر والأصعب والأكثر تشابكاً.
كلمة "كونفوشيوس العراق" في اجتماع الدورة الـ150 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في العاصمة المصرية القاهرة الذي عقد في (11 أيلول/سبتمبر 2018)، كانت تستحق أن تكون مسك الختام لمشواره الدبلوماسي الذي ينتهي قريباً بعد إسدال الستار على حكومة العبادي واختيار رئيس وزراء جديد من قبل مجلس النواب، والمقرر أن تتم خلال الفترة القريبة المقبلة.
طالب الجعفري خلال كلمته الجامعة العربية بأن ترسم أولوياتها على ضوء المصالح والمخاطر وتفكر بحجم الإنسان العربي والقدر العربي، وألا تكتفي اجتماعاتها بالكلمات والخطب، ودعا أيضاً لعودة سوريا إلى حضن الجامعة، وإنهاء الصراع في اليمن عبر الحلول السياسية والسلمية والابتعاد عن التدخلات العسكرية.
وعن قضية فلسطين، فقد عبر عنها وزير الخارجية كما يريد الشعب العراقي عندما عدها عمقاً مأساوياً، وجرحاً نازفاً يستمر منذ أن امتدت اليد الآثمة لاغتصابها، وحتى اليوم، وفي كل موسم جديد يبدأ أعداء الحق والحقيقة بارتكاب جريمة جديدة بحقها كان أخرها حبس الأموال عن وكالة اللاجئين "الأونروا".
ولم يخطئ السيد الجعفري عندما قال إن بعض الدول صارت "عظمى" في غفلة من التاريخ، وتحاول دفعنا نحن وأجيالنا وأحفادنا إلى الرضوخ، فعالم اليوم عنوانه "الاستباحة"، وأدواته الإعلام القوي والآلة العسكرية فقط.
وهكذا واصل وزير الخارجية خطابه في اجتماع الجامعة العربية، وهو يطرز العبارات والجمل التي تنقل موقف العراق المحوري وتُذكر العرب بتاريخهم وحضارتهم وعمقهم وتراثهم، ليحثهم على النهوض مجدداً، والوقوف بوجه من يريد مصادرة حقوقنا واغتصاب قدسنا.
نعم، ستتذكر الأجيال اللاحقة أنك مررت من هنا وكنت واحداً من أبرز الشخصيات التي تعاقبت على إدارة ملف الخارجية العراقية، وجلست خلف طاولات المحافل الدولية وكنت بمستوى ثقة العراق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.