أوشكت قوات الرئيس بشار الأسد على مهاجمة إدلب، آخر محافظة تسيطر عليها قوات المعارضة في سوريا، مع تزايد المخاوف من وقوع مذبحة جماعية.
إن أول شيء أدهشني عندما رأيت إدلب، المحافظة التي تسيطر عليها قوات المعارضة في شمال غربي سوريا، في أبريل/نيسان من العام الماضي، هو الطبيعة الخضراء. رأيت أشجار الزيتون والكرز على جانبي الطرق الوعرة، التي تمتد من الحدود التركية وصولاً إلى مدن المحافظة. ارتفع دخان في السماء بعد غارة جوية أو قذيفة متفجرة في المكان. ورأيت مباني معظم المدن وعليها آثار ضربات جوية.
سافرت إلى إدلب لإجراء تغطية صحفية عن الهجوم الكيميائي الذي شنّه نظام الرئيس بشار الأسد على بلدة خان شيخون، والذي أودى بحياة أكثر من 80 شخصاً. أتذكر مشهد أب يُدعى عبدالحميد اليوسف، وهو يحمل ابنه وابنته قبل دفنهما، بعد أن تسمموا من الهواء الذي استنشقوه. وفقاً للجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، فإن القوات الجوية التابعة للرئيس الأسد هي المسؤولة عن الهجوم بالغاز الكيميائي، الذي أودى بحياة زوجة يوسف وأطفاله، إلى جانب العديد من الأقارب الآخرين.
حاول صديق يوسف التخفيف من وقع الفاجعة، وأخبره عن "الصراط"، وهو جسر يعتقد المسلمون أنه يجب على الناس عبوره في يوم القيامة. من المفترض أن هذا الجسر أدق من الشعرة ويؤدي إلى أبواب الجنة. قال صديق يوسف: "في يوم القيامة، سوف يجتمع شمل أولئك الذين فقدوا أولادهم وتحملوا هذه المأساة بصبر بمن فقدوهم. وسيكون لأطفالهم أجنحة يحلقون بها ليحملوا آباءهم عبر الصراط إلى أبواب الجنة".
بدا وكأن يوسف استيقظ. وقال: "هل ستكون أمهما معهما أيضاً؟ هل أحمد وآية سيكونان هناك ومعهما حمودي وعمورا؟" أحمد وآية هما ابناه، أما حمودي وعمورا فهما ابنا أخيه.
لا تزال هذه اللحظة تزعجني.
تنذر سحب العاصفة التي بدأت تتجمع في الأفق خلال الأسبوع الماضي، بهجوم وشيك من قبل نظام الأسد وحُمَاته الروس على إدلب، في ظل تحذير وكالات الإغاثة من كارثة إنسانية محتملة يمكن أن تؤدي إلى موجات جديدة من اللاجئين إلى الجارة تركيا. وتسبَّبت بالفعل غارات جوية روسية في مقتل 13 شخصاً في إدلب، بينما تقصف قوات الأسد المنطقة. وفضّل حلفاء الأسد من الإيرانيين والروس لغة مجردة من الإنسانية في حديثهم عن المسلحين في إدلب، حيث وصفوهم بـ "الخُرّاج المُتقيح الذي يجب تصفيته".
تظهر إدلب على أنها نهاية اللعبة في حرب أودت بحياة أكثر من نصف مليون شخص، ونزوح نصف سكان سوريا، ودفعت الملايين إلى البحث عن ملاذ "آمن" في الخارج، مما أحدث انفجاراً عنصرياً في أوروبا وخارجها، أدى إلى كشف هشاشة وخواء النظام الليبرالي العالمي المتبجح.
لكن تعتبر إدلب أيضاً هي الملاذ الأخير لنحو ثلاثة ملايين شخص. يعيش مئات آلاف النازحين من منازلهم في أماكن أخرى في سوريا داخل هذه المحافظة، نتيجة الزحف المستمر لجيش الأسد والميليشيات الطائفية المتحالفة معه، مدعومة بحملة قصف جوي عديمة الرحمة تشنها القوات الجوية الروسية.
سيودي هذا الهجوم المحتمل بحياة العديد من الناس، وسوف يهرب الكثير ويُدفن آخرون تحت الأنقاض. حدث ذلك من قبل، وسيحدث مرة أخرى. إننا ندرك ذلك، وصرنا متواطئين بسبب ما نعرفه، وعدم اكتراثنا لما سيحدث، وتقاعسنا عن المساعدة.
تحولت إدلب إلى عالم مصغر يتقاسمه وكلاء القوى الإقليمية والدولية، حيث تتصارع كل القوى التي بزغت أو وُلِدت من رحم انتفاضة سوريا الصادمة، في معركة كارثية سيدفع المدنيون الأبرياء ثمنها كالعادة.
يتشارك السوريون قصصهم في انتظار من يستمع إليهم داخل مخيمات اللاجئين، وفي مراسم الجنازات، ووسط أنقاض المباني التي قصفتها الطائرات. وأحياناً يتوقفون عن الحديث معنا لأنهم أدركوا عدم جدوى كل ذلك. غالباً ما أشاركهم في إحباطهم، ولكنني أستمر في إعداد التقارير من أجل إنشاء سجل وافٍ، على أمل ألا يقول أحد إننا لم نعرف ما يحدث.
علمتني سوريا أن المعرفة لا تحمّلك المسؤولية، وتعلَّمت أن العائلات التي دُفنت تحت الأنقاض لن تحصل على العدالة. وحتى أولئك الذين اضطروا إلى البدء من جديد في بلاد أجنبية وتعرَّضوا للهجوم بسبب وقاحتهم في طلب تربية أطفالهم في أمان، فإنهم لن يحصلوا على العدالة أيضاً. كما أن أولئك الذين غرقوا في طريقهم إلى الشواطئ الأوروبية، وأولئك الذين حُوصروا وتعرَّضوا للجوع حتى شارفوا على فقدان حياتهم لن يحصلوا على العدالة.
لن تتحقق العدالة للآباء الذين فقدوا أطفالهم بسبب غاز السارين، وظهروا على الصفحات الأولى للصحف تحت أغطية بيضاء صغيرة. وستظل العدالة بعيدة المنال للأم التي نزفت أقدامها بحثاً عن أخبار ابنها في زنازين الأجهزة الأمنية السورية. ويتساءل كثير من السوريين الذين تحدثتُ معهم، لماذا لم يفعل العالم شيئاً لمساعدتهم، ولماذا اكتفى الغرب -وهو مصطلح بديل عن الولايات المتحدة- بتقديم مجرد كلمات، لماذا لم تتجاوز ردود أفعال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تجاه الأعمال المروعة سوى الغضب والتظاهر.
يفتقر الأميركيون غالباً إلى الوعي بمدى انتشار بلدهم في العالم وأسلوب الحياة في الشرق الأوسط. وصف لي أحد الناشطين في الرقة معنى العيش تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية، بالإشارة إلى المسلسل التلفزيوني الأميركي "القائمة السوداء" ليشرح كيف يتكيف البشر مع الإجرام.
تغيّرت أو تبدلت أو دُمِّرت العديد من الحيوات بسبب التدخل المباشر أو غير المباشر للولايات المتحدة، سواء كانوا من الإيزيديين الذين أنقذهم تدخل الولايات المتحدة في العراق، أو من أولئك الذين دُفنوا تحت الأنقاض جراء الغارات الجوية التي شنَّتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على الموصل والرقة.
إن القصة التي يؤمن بها العديد من الأميركيين تجاه بلدهم، هي قصة مقتبسة من روح الحرب الباردة تتمثل في نشر الليبرالية والحرية، وهي قصة يتعلق بها أحياناً من يعيشون في حالة من اليأس. بعد الهجوم الكيميائي الذي وقع عام 2013 على يد نظام الأسد في سوريا، الذي أودى بحياة أكثر من ألف مدني، تمنى العديد من السوريين أن تفرض الولايات المتحدة "الخط الأحمر" الذي أعلنه الرئيس باراك أوباما. وفي عام 2016، انتظرت حلب عبثاً المساعدة الأميركية التي لم تأتِ أبداً.
أدت إطالة أمد الحرب إلى ظهور الجماعات المتطرفة التي تقاتلها الولايات المتحدة الآن في سوريا. عندما تعرَّضت الغوطة، إحدى ضواحي دمشق، للحصار هذا العام، لم يعد السوريون ينتظرون المساعدة من العالم.
تبدو قصة الخيال الليبرالي الأميركي ملائمة، لأن الولايات المتحدة لم تقبل فقط انتشار الدكتاتوريين الاستبداديين في المنطقة وفي أماكن أخرى، بل شجعتهم ودعمتهم لتحقيق مصالحها. لم أكن أعرف ماذا أقول للسوريين الذين كتبوا لي كل يوم وهم تحت الحصار، آملين أن يؤدي تدخل قوة خيِّرة في الصراع إلى وضع حد لمعاناتهم.
تدخلت الولايات المتحدة في سوريا لحماية مصالح "الأمن القومي" الخاصة بها، وليس لحماية المدنيين. تدخلت أميركا وقتلت الكثير من المدنيين في سعيها المنفرد وراء تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، وهو أحد أعراض أمراض المنطقة، وليس السبب. خُرقت الخطوط الحمراء، وصدرت دعوات روتينية لإسقاط الدكتاتور، خمدت الرغبة في الغضب الأخلاقي، بينما استمر تساقط الناس.
تُوفي نصف مليون شخص، وصارت العدالة الوحيدة التي يمكنهم أن يأملوا بها في الحياة الآخرة، عندما يتساوى الجميع، كما يعتقدون.
أجد نفسي مراراً وتكراراً أفكر في المقبرة القابعة بالقرب من منزل يوسف في خان شيخون، حيث وقفت بعد أن تحدّثت إليه، وصرت أحدق في مقابر زوجته وأطفاله المحفورة للتو في تربة بلون القرفة.
لا تزال هذه القبور شاهدة على أسطورة المجتمع الدولي والقانون الدولي.
تبدأ الحكايات العربية الخيالية بجملة: كان ياما كان، كان كذا، أو لم يكن. ولك الحق في تصديق الأسطورة أو إنكارها.
كان ياما كان، كان هناك مجتمع دولي.
كان ياما كان، كانت هناك عدالة واحترام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.