لم تصادف أيامي مجرماً أقبح ولا أحقر من جاحد ومنكر فضل أمه وأبيه، لم يستطِع عقلي يوماً استيعاب قسوة البعض تجاه آبائهم، لم أتخيل يوماً أن تصل الإنسانية لإنتاج ابنة ترفض الاعتناء بأبيها وهو على حافة الموت، أو رجل يرفض استضافة أمه بدعوى أنها على غير توافق مع زوجته..
عندما أقف على منظر امرأة عجوز، بجسم متهالك، تقف بصعوبة، وتمشي بصعوبة أكبر، تأتي للمشفى لتنتظر صباحاً بأكمله، وحدها، هي وملفات وأوراق لا تدري ما كتب فيها، لا تعلم من أين تأتي أو إلى أين تذهب، كأنها تائهة في بلاد الأحزان، عيناها ذاهلتان أمام الكم الرهيب من المرضى، والطرق المتشعبة، والمصاعد التي لا تقف، ولا تصعد، ولا تنزل.. أشاهد كل يوم سيدة من هذا النوع، أتساءل أين هم أولاد هذه!؟ وأين هن بنات الأخرى؟!.. يوماً ما قررت أن أسأل إحداهن.. أجابتني بابتسامة خجولة وحزن دافئ.. "لكل عمله وبيته يا ابنتي، أنا أقطن وحيدة، ولا أرغب في أن أثقل عليهن، بناتي متزوجات وربما مرضي المزمن وزياراتي المتكررة للطبيب قد تسبب لهن مشاكل مع أزواجهن إن هن اهتممن بي بشكل مبالغ فيه".
وجدتني أتخيل أمي في محل تلك السيدة، ماذا لو دارت الأيام وكانت أمي هي من تحمل ملفها وحيدة، بظهر تقوس ووجه تجعد وتأتي للمشفى هي ولا أحد؟!.. إذا ما حصل أن عطشت لم تجد من يقدم لها ماء، وأنا في بيت زوجي راضية مرتاحة.. احتقرت حينها كل شيء في الوجود قد يجعلني أبتعد عنها في عجزها وضعفها.. يحصل أن تعثر على مريض، ملقى في قسم ما، لا يزوره أحد، لا يسأل فيه أحد، شيخ، بشيبة تدعوك للاستحياء منه، يقبع هناك وحيداً يمل تأمل الحيطان، قد يحصل أن يأتيه ابن في كل أسبوع مرة، يطل عليه، ويختفي.. أو فتاة ترقبه عن بعد وتذهب..
وقد يحصل أن لا يأتي أحد، رجل له من الأولاد الكثير، يقبع هناك وحيداً لا يرى سوى وجوه الأطباء والممرضين. يحدث أن يطلبوا من بنات مريض أخذه لتتوفاه المنية بين أحبابه وأهله، لكنهن يتحججن بعدم استطاعتهن الاهتمام به، وأنهن يستطعن دفع كل المصاريف، ولا واحدة تستطيع أن تأتي لتغير الحفاضّات وتطعم والدها وهي التي لديها عمل وزوج وأبناء، تبريرات، وتفسيرات واهية، يجعلنها سبباً لكفرهن بأبيهن وأبوته.. عاق أمه وأبيه، أسوأ شخصية قد تصادفها في حياتك، هو شخص توقع منه أي رذيلة، القتل والسرقة والزنى والاغتصاب، توقع منه أن يخون زوجته، أو تحبل من غير زوجها وتنسبه له، توقع منه بيع ضميره بدرهمين، هو مناسب جداً لأكل مال اليتيم بضمير مرتاح.. عاق أمه وأبيه..
شخص بئيس، مستنزف أخلاقياً، مختل وفاسد المزاج، مثير للشفقة حد الغثيان.. لم تكن وصية النبي عليه السلام سوى عهد مقدس، وميثاق رحموتي، ووعد رباني، أمك.. ثم أمك.. ثم أمك.. ثم أبوك.. وما أصر النبي على شيء سوى لعظمته ومكانته الجليلة عند الله، فطبيعي أن يجعل الله رضاه من رضى الوالدين وسخطه من سخطهم.. طبيعي أن نجد أن الوالدين يحوزان مكانة القدسية في القرآن وإن كانا كافرين، فعدّا طاعتهما في كفرهما، أنت كلك لأبيك وأمك، أنت لا شيء بدون دعوة صالحة من أمك، بدون لمسة طاهرة من يد أبيك، بدون قُبلة كريمة على جبهتيهما، أنت نكرة، وإن ملكت الدنيا بحذافيرها، وفرطت في صحبة والديك.. الأسى هو ما أحمله عند رؤية نماذج كهذه، أدرك تماماً أن الكارثة قادمة لا محالة، فمن لم يُرضِ والديه، ماذا عسى للوطن أن يجد فيه سوى مزيد من الفساد والسقوط نحو الهاوية؟! أي جيل سننتظر ممن تركت أمها تسافر من مدينة لأخرى لزيارة الطبيب أو قضاء أشغال وهي واهنة متعبة، وتتفرغ هي، ست الحسن والجمال لعملها ومكياجها وصديقاتها.. أُسائل نفسي: هل سيأتي عليَّ يوم لأصبح على هذه الشاكلة؟ هل سيأتي يوم لأجد نفسي مع زوج وأبناء متناسية أمي إذا ما مرضت وأبي إذا ما أقعدته السن؟..
تتقاذفني التخيلات، وأنبري داعية أن يعفيني الله من هذا البلاء، فلا معنى للحياة حينها وإن ملكت قصور قارون ورفعة الملوك وسلطة الشيوخ، فلن أعدو حينها أن أكون نكرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.