في زمن الرّداءة وتفاهة الكلمة التي تحمِلُها أغاني العصر الحديث.. وفي زمنٍ غدا فيه اللَّحنُ الجميل العذْب الممتزجُ بحُلْوِ المعاني عملةً نادرة.. أصبحَ للغناء بالفُصحى حضورُهُ الخاص وقيمتهُ الأكبر، بعدَ أن كادَ أن يفقدها في موجة الكليبات الهابطة والأغاني الخالية من المعنى والهدف.
بِتنا نفتقد لأغنياتٍ جميلة بجمال من غنّوها، ولألحانٍ وكلمات راقية تنتشلُنا من قاعِ "الانحطاط" الذي وصلتْ إليه الأغنية في وقتنا.
مَن منّا لا يحبُّ صوتَ فيروز وهي تغنّي: "أنا يا عصفورة الشَّجن مثلُ عينيكِ بلا وطنِ"، و"يا عاقد الحاجبين"، و"أهواك"، و"أعطني النّاي"، أو "كن صديقي"، و"كلمات" لماجدة الروميّ.. أو "قارئة الفنجان" لعبدالحليم حافظ أو "ماذا أقول له" لنجاة الصغيرة.. و"هل تذكرينَ الحبَّ لي" لوديع الصافي؟
دائماً ما تُثيرُ الأغاني باللُّغة العربية الفصحى مشاعرَنا، سواءَ العاطفية منها أو الوطنيّة، تعزفُ على وترِ الوجدان فتبعثُ بركاناً من الأحاسيسِ المختلطة التي تمتزجُ لتشكّلَ عالماً نغوصُ فيه، وأحياناً ما تكونُ هي مخرجَ الطوارئِ الوحيد من قاعِ "السَّخافة" التي تحيطُ بنا.
لستُ هنا لأتعدّى على أذواقكِم أو أقترحَ عليكم أن تستمعوا لموسيقى وفنان مُعيّن دونَ غيره، ولكنّني أرغبُ في تسليطِ بعض الضّوء على مَنْ آمنَ بأنَّ الفصحى إذا تسلّلتْ إلى شيءٍ بسيط أضافتْ إليه من الزينة والجمال ما يسمُو ويرقى بروحكَ إلى الأعلى.
سَأشيرُ إلى ملاحظة بسيطة لا بدَّ منها: (حديثي هنا لا يدخلُ في باب "جواز سماع الأغاني من عدمه" أو في باب استبدال سماع الأغاني بالقرآن الكريم؛ لأنني أرفض أن يُقارن كتابٌ عظيم كالقرآن بالأغاني وسواها.. ولإيماني أيضاً بأنّ الموسيقى الراقية هي غذاء الروح).
بدايةً لا نستطيعُ أن ننكر أنَّ الغناءَ بالفصحى ارتبطَ ارتباطاً وثيقاً بالأغاني الوطنية وأصبحَ لصيقاً بما يُسمّى "الفن الهادف"، كما نجده في الأناشيد الدينية أيضاً، أمّا الأغاني العاطفيّة فانساقتْ بمعظمها إلى الكلام العاميّ؛ لأنّه الأقربُ للجمهور المتلقي وأنا هنا أتحدث بالمُجمل ولا أُعمّم.
كما يلعبُ اختيار الفنان للشّاعر الذي سيغنّي له دوراً كبيراً في نجاحِ الأغنية؛ لذا نجدُ أسماءً لفنانين تقترنُ دائماً مع أسماء شعراء كبار غنّوا لهم، حتّى وإنْ قام فنانٌ آخر بالغناء من كلماتِ هذا الشاعر، فإنَّ نجاحه لن يكون بحجم نجاح ذلكَ الفنان الذي اقترنَ اسمُه به على الدوام، سأذكرُ بعضَ الأمثلة للتوضيح:
1- محمود درويش ومارسيل خليفة
تشعر وأنتَ تقرأ أشعارَ محمود درويش العظيم، وكأنَّها خُطّتْ كلّها لتُغنَّى، لم تُكتبْ عبثاً؛ بل بإيقاعٍ موسيقيّ يلامسُ كلّ القلوب، صاحبُ رائعة: "أعدّي ليَ الأرض كيْ أستريح فإني أحبكِ حتَّى التَّعب"، كانتْ أشعارُهُ السّبب في نجاح مارسيل خليفة دون أن أُنكرَ صوتَ الأخير وألحانَه المميّزة، فهو الذي يعترفُ دائماً بأنه: "لولا محمود درويش ما كانَ لأحدٍ أن يعرفَ مارسيل خليفة".
بدأت العلاقة الفنيّة بينهما مع صدورِ أوّل ألبوم لمارسيل وتحولتْ بعدَها إلى علاقةِ صداقة وفنّ في آنٍ واحد، افتتَحها بـ"وعود من العاصفة"، واختتمَها بألبوم سمّاهُ "أندلس الحب" وصفه بقوله: "هو ساعةٌ روحيّة لا محدودة.. بُنيَت عليها الجنّة"؛ ليصبحَ عمرُ علاقتهما الفنية ما يُقارب الثلاثينَ عاماً.
نحنُ الجيل الذي تربّى على أغاني مارسيل: "في البال أغنيةٌ – إنّي اخترتُكَ يا وطني – أجملُ الأمهات – تصبحونَ على وطن – يا وطنَ الشّهداء – أحنُّ إلى خبزِ أمي – لأصلّي له – يا ريتّا – في دمشقَ تطيرُ الحمامات – أندلس الحب وغيرها الكثير..
نشاهدُهُ وهو يغنّي بحبٍ للوطن "منتصبَ القامة أمشي مرفوعَ الهامة أمشي في كفي قصْفةُ زيتونٍ وعلى كتفي نعْشي"، فَيمتزجُ صوتُه بصوتِ الجماهير وهي تردّدُ معه: "وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي"، نستطيعُ القول إنَّ أشعار محمود درويش وصوت مارسيل وذكاءه الموسيقيّ قد جعلَ منهما ثنائياً رائعاً سيبقى ما بقيَ الدَّهر.
2- نزار قبّاني وكاظم السّاهر
كاظم السّاهر الملّقب بالقيصر أحدُ أهمِ المطربين الذين أجادوا الغناء بالفصحى، لا يختلفُ اثنانِ على ذلك، وصلَ بغنائهِ لأشعارِ نزار قبّاني إلى قلوبِ وبيوتِ الجميع، ولأنّه تميّز بصوتٍ يأسِرُ الفؤاد.. تمنيّتُ – وأنا على مقاعد الدراسة – لو أنّه غنّى كلَّ قصائدِ المنهاج وبالأخصّ الشّعر القديم منها، حتّى يتسنَّى لي حفظُها بسهولة.
لم يكنْ سببُ نجاح كاظم صوته الجميل فحسب، فهو على درايةٍ وفهمٍ بمخارجِ الحُروف، وهذا ما يجبُ أن يتحلَّى به كلُّ فنانٍ يريدُ أن يغنّي قصائدَ شعريّة، بالإضافة إلى أنَّه خبيرٌ في انتقاءِ اللَّحن لاختياراته من القصائد، ذلك اللّحن الذي يُضْفي على الأغنيةِ سحراً يجعلكَ تستمعُ لها بانسجامٍ تام، ومع أنَّ الكثير حاول تقليدَه، إلاَّ أنه بقيَ في الصّف الأول ضمنَ "رُواد الغناء بالفُصحى".
أبرز قصائد نزار قباني التي غنّاها كاظم السّاهر، والتي لا تخْفى على أحد: "قولي أحبّكَ – علمني حبّك – حافية القدمين – كتاب الحب – أشهدُ – مدرسة الحب – أنا وليلى – إني خيّرتُك – أحبيني بلا عُقَد – زيديني عشقاً – هل عندكِ شك – دلعُ النساء – إلاّ أنتِ – صباحك سُكر – أكرهُها – رسالةُ حبٍّ صغيرة – يدُكِ".
3- القصائدُ الشعريّة وعبدالرحمن محمد
اشتهر عبدالرحمن محمد بصوتهِ الشّجيّ وإحساسِهِ المُرهف، وهو يغني قصائدَ عربيّة من التراث القديم بألحانٍ عصريّة وموسيقى قد يراها البعضُ صاخبةً، وقد يراها البعض الآخر متناسبةً مع ميول الشَّبابِ إلى الموسيقى الغربية.
لعلّكم تحفظون مطلع كلّ القصائد التي قام بغنائها:
أَصَابكَ عِشْقٌ أم رُميتَ بأسْهُمِ
بروحي فتاةٌ بالعفافِ تجملّتْ
ولمَّا تلاقينا على سَفحِ رامةٍ
وأمرُّ ما لقيتُ من ألمِ الهوى
ولمَّا بدا لي أنَّها لا تحبني
قولوا لها إنني لا زلتُ أهواها
وشبيهُكِ بدرُ التَّم بل أنتِ أنورُ
ولكيْ أكونَ مُنصِفة، فإنني أجدُ أن الغناء بالفُصحى عادَ وبقوة بين جيل الشّباب بعد أن كانَ مُهملاً، وهذا ما يجعلني أتفاءل بأمثال عبدالرحمن ورشا ناجح التي أصدرت "ألبوماً" سمته "قواعد العشق للعارفين"، قدمتْ فيه قصائد أشبهَ بالترانيم بصوتٍ وموسيقى تحرّكُ القلوب، من مثل: "عذِّبْ بما شئت"، و"ناديت"، و"تركت أنسي".
وختاماً أقول:
لا يكونُ الفنُّ فنّاً حقيقياً حتى يكونَ للفصحى منه نصيب، فلا أجملَ من أن تمتزجَ الموسيقى بقصائد تغنيها أصواتٌ تجيد العربية؛ لأننا لا نريدُ لغةً كالتي يغنّيها "يوري مرقدي"، بل لغةً عربية مُتقنة تلامسُ القلوب بألحانها العذبة وكلماتها الراقية.
نريد أمثال: "ريم بنّا"، و"لينا شماميان"، و"هبة طوجي"، و"عبير نعمة" في كلّ عصر، نريدُ لشغفنا باللّغةِ والفن الهادف ألاّ ينطفئ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.