غالباً ما نحزن كثيراً على أشياء لا تستحق أن نلتفتَ لها مجردَ التفاتة، فلو تمعّنا ما نفقده يومياً من أشياء تكونُ في أيدينا، لذُهلنا من حجمِ الخير الناجمِ عن فقداننا لها.. أجل الخير.. ألم يقل جلّ في علاه: "فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً".. فرصةٌ طيبةٌ أراها اليوم أن أكتبَ عن مزايا الفقد وإيجابياته، فلا للبكاءِ على أطلالِ بيتٍ أصبح في زمنٍ كان، ولا لذرفِ آهاتِ حسرةٍ أو صدمةٍ أو استخراجِ شهقةٍ من أنفاسٍ مفجوعةٍ لمغادرةِ بعضِ أقراننا لمربعٍ كنا نظنُ أنهم لن يغادروه البتة، لنتذكر فلربما تكونُ المغادرة ناجمة عن استجابة الله لدعاءٍ أطلقناه وردناه كثيراً اللهم اصرف عنا شر ما قضيتْ، هم لم يُغادروا بإرادتهم بل مرغمين مجبرين مكرهين؛ لأنَ المعادن الثمينة لا تليقُ بها إلا معادن ثمنية مثلها أو أكثرَ ثمناً حتى!
نُقلبُ شريطَ الذكريات بين اليوم والأمس، نجد مفارقات، بعضهم ينسحب بهدوءٍ ويرحل، وآخرون يستبسلون في دقِّ جدران قلوبنا لينعموا منا ولو بنظرة رضا قبل أن نستأذن القلب ليُفسح لهم مكاناً نجلسهم فيه، الخيرة في الصنفين في رحيلِ من يرحلون وتودد من يتوددون.. فلِم نبتئس، كثيرة هي المواقف التي تستدعي شكرَ الإله على الدوام حينَ يُشعرنا بأنه "يُدبر الأمر" فما كسرَ الإله قلبَ عبدٍ إلا ليجبره بما يستحقه، فالله لا يعطينا إلا ما نحتاجه، ولا يمنع عنا إلا لخيرٍ لنا قبل غيرنا.
للفقدِ فوائد جمّة، سواء كان الفقد في الأشخاص أو الماديات فوائد تتطلبُ شكر الله دوماً فالمتمعن في حياة المؤمن والواثق من عطايا الإله يُدرك أن خلف كل فقد عطية مدهشة، أقول ذلك وقد جربتُ الفقدَ لأشياء يظنها غالبيةُ قومي (بالتافهة)، جربتُ شعورَ أن أعودَ من مدرستي ولا أجدُ أمي إلا بالمستشفى مدرجة في دمائها، كان ذلك وأنا أتخطى عتبةَ أعوامي العشرة الأولى، مرحلة لم أكن أعرف فيها كيفَ أسرحُ شعري لأن اعتمادي كلياً كان على أمي، جربتُ نكهة أن أكبر وتكبرُ معي مرارة الحرمان، ليس فقط لقهوةِ أمي التي تغنى بها شعرُ الشاعر الفلسطيني محمود درويش ولا فقط لخبزها؛ بل لأن أتحدثَ معها حديثاً عادياً كما تتحدث أيُّ أمٍ طبيعيةٍ مع ابنتها..! فرغم أن أمي بيننا إلا أن التواصل يُعد قليلاً لطبيعة حالتها المرضية.
للفقدِ فوائد تُعطي المبتلى عزة نفس لا انكساراً فيفيض تأملاً بدورة الكون وإبداع الخالق حتى في توزيع ابتلاءاته، حيثُ يُرسل الله رسائلَ لعبده، رسائل موجعة جداً لكنها لطيفة، فأن تفقدَ شيئاً تُحبه يعني أن تكفَّ عن التعلقِ بشيءٍ زائل وأن تلجأ لتتعلقَ بربِّ الكون، إنها غيرة الله عليك، يُريدُ أن يُهذبك لئلا يكون هناك اهتمامٌ يُشغلكَ أكثر من اهتمامكَ به جلّ في علاه فتنشغل بكيفَ تُرضيه وتتقرب إليه.
هذا ما توصلتُ إليه بعد تجاربَ عدة مع أشياء عزيزة على قلبي فقدتُها، ففي كلِ مرةٍ كنتُ أفقدُ شيئاً كان الله يقول "إياكِ والتعلق" فالتعلق يتجافى مع إيمان المؤمن الحقيقي، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، هذا رسول الله فما بالكم بحبنا لله عز وجل وحب الله لنا؟ ماذا عن إيماننا في هذا الجانب؟
لا داعي للقلق، لا تقلقوا، بل انهضوا ورتبوا أسرَّتكم من جديد وتأكدوا أن الله يُرتبُ لكم أمور حياتكم وفق أولوياتِ احتياجاتكم فهو أعلم بما في نفوسكم، يُريد الله ليطهركم وبعض جوانب التطهير يأتي على شاكلةِ أن تفقدوا لتعتبروا، لتستيقظوا، هزات الفقدِ تُوجع لكنها بعد فترةٍ تُحيي الأرض الميتة تماماً، نتائجها تكون كروعة هذه الآية "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا" وعلى شاكلتها ويعطيهم من بعد ما فقدوا..
في حياتي تعرضتُ لهزاتٍ مخيفة، لم تكن الهزة سوى ضربة أتلقاها بجسدٍ ضعيف وروحٍ شامخة، فأقوى، أتلقاها بقلبٍ راضٍ مطمئن، بيقينٍ يقول لي ويخاطبني: "لهذا الشعور ما بعده من تمكين". فلا تحزنوا حين تفقدوا، بعضُ الفقدِ راحة، وكثيرٌ منه ربحٌ لا خسارة، التمسوا للمواقفِ من حولكم سبعين عذراً، واعذروا كل من كان قبيحاً في تعامله معكم، سيأتي يوم قريب تُراجعون أقوالي هذه وتشكرونني قائلين: "إن كلماتك على الجرح" فقد أكرمنا الله وأدهشنا وقد كنا من قبل لمن اليائسين البائسين. إياكم أن تلعنوا الفقد، اشكروه لأنه يُهذبُ الإحساس والشعور، يرقق القلب، يُعطي الضمير راحة، إنه على مرارته نعمة، لمن يعتبر، لمن يشكر، لمن يُدرك بحق "عجباً لأمر المؤمن كله خير، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر".
اجعلوا حياتكم رهينة كلمتين "شكراً وصبراً"، "اشكروا واصبروا واربطوا الألم"، حاصروه بعظمةِ الإحساس النابع من حُسن الظن بالله أن سحابة الصيف ستنقشع، والله غالب أمره ولكن أكثر من لا يدققون في الفقدِ من جوانبه المتعددة لا يعلمون كم هم في نعمةٍ حتى حين يفقدون! سيارتُك التي اشتريتها وفقدتها إثر حادث سير، لا تحزن عليها، زوجتك التي لم تكن مثلما أردت فقررتَ الانفصال عنها لا تحزن عليها، زوجكِ الذي سافر ولم يعد يسأل عنك فقررتِ الانفصال بعد سنواتٍ من الصبر لا تغضبي لفقدانك إياه، بعد كل هذا الفقد الذي هو في الأساس مكتوب في اللوح المحفوظ عطاء يُبكي العيون فرحاً.. فهيا استعدوا يا من فقدتم.. استعدوا واستثمروا شهر الخير بالإكثار من الدعاء بالإلحاح.. إياكم أن تنمقوا كلماتكم كما يُنمق البشر الشعارات بين بعضهم بعضا.. الله يُحب العفوية والتلقائية.. الله يُحب البسطاء في أدعيتهم.. يستشعر الصدق.. فأكثروا من يا رب وقولوا واسألوا.. وأكثروا.. فإن سؤالكم الله وأمانيكم لا تُنقص من ملكه شيئاً.
أموال قارون بيده، وقلب السلطان بيده، ومقاليد الحكم بيده، ومفاتيح كل شيءٍ بيده، وعيبٌ عليكم بعد ذلك أن تخاطبوا في أشياء فقدتموها بشرٌ مثلي ومثلكم لا يغنون عن الله شيئاً.. اشكروا الفقد وامضوا واثقين أن الغدَ لكم، وأن الكرم الإلهي خُلقَ من أجلِ أن تقرَّ عيونكم وتطمئن قلوبكم.. سيعوّضكم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.