أزال وزير الثقافة الجزائري الستار منذ أزيد من شهر عن تمثال عين الفوارة بمدينة سطيف الجزائرية (تبعد عن العاصمة بـ 269 كم) بعد ترميمه، التحفة الفنية التي خُربت مراراً وهرمت من الترميمات التي ظلت لفترة حديث الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لينالها التخريب للمرة الثالثة منذ أشهر بعد سنتي 1997 (عملية إرهابية) و2006 (شاب مدمن) من قِبل شخص لم يجنّ جنونه سوى على تمثال المرأة العارية تحديداً.
إذ صاحب عملية التخريب والترميم معاً انتقادات واسعة وسخط غير مبرر؛ لنجد مَن هلَّل لما جرى لهذا التمثال بعد تخريبه، ولاحقاً الكثير ممن لم ترُق له عملية الترميم والمبلغ الذي صُرف لأجله، لكن المفاجئ طلب بعض نواب البرلمان المحسوبين على التيار الإسلامي زجّ هذا الوثن في دهاليز المتاحف لا لشيء سوى كونه امرأة عارية.
الأدهى من هذا صمت الأبواق الإعلامية وعدم الاحترافية في طرح الموضوع دون أدنى محاولة للكشف عن حقيقة هذا التمثال الذي قدموه قرباناً ومادة إعلامية فضفاضة لصنمهم الأكبر وهو الرداءة والمحاباة.
المحير اكتشاف الجزائريين بعد 55 سنة من الاستقلال وجود وثن فوق نبع عين الفوارة؟
المنحوتة المجسدة من المرمر والحجر الأبيض الممثلة لجسد امرأة نصف عارية صنعها النحات الفرنسي الإيطالي فرنسيس سان فيدال، التي عُرضت بنافورة تحت برج إيفل مع العديد من المنحوتات بالمعرض العالمي تزامناً مع مئوية اندلاع الثورة الفرنسية 1898 لتنقل بعدها إلى متحف اللوفر، وقد تم شحنها إلى سكيكدة ثم سطيف بعد موافقة مدير المتحف على الطلب الذي تقدم به رئيس بلدية سطيف آنذاك الطبيب أوبري شارل الذي لاحظ اهتراء المعلم المتواجد بعين الفوارة وارتأى ضرورة تغييره.
بالعودة إلى المصادر التاريخية المتوفرة باللغة الفرنسية، منها مذكرة بعثة أبواب الحديد، وما جاء في كتابات لوريس رين حول "مطمورة روما" أو "ستيفيس" سنة 1839 حيث عبر عن انبهاره بالآثار الرومانية المترامية عند مدخل المدينة والسوق المتواجدة بها التي تتوسطها عين لا تنضب ونصب شامخ لم يحدده، فيما ذُكر أن المنبع كان به مجسمات لأوجه حيوانات يخرج الماء منها، بالإضافة للهندسة المعمارية لما تبقى من البنايات البيزنطية والوندالية في صورة جلية عن الحضارات التي مرت على المدينة.
وعليه، فالتمثال الذي وضع لاحقاً ليس إلا تحصيل حاصل لنصب كان متواجداً بعين المكان من قبل، ما ينفي نظرية المؤامرة التي راجت، بأن السلطات الفرنسية نصبته كطريقة لإزعاج المصلين بالمسجد العتيق الواقع قبالة عين الفوارة، حيث كان المسيحيون يتبركون بمائها ويعمدون أطفالهم بهذا النبع والكنسية الواقعة غير بعيدة عنه، إضافة لتواجد كنيس يهودي قبالة المسجد، فلو كان ذلك فهو تحدّ لجميع الديانات.
كما أن هناك معلومات مؤكدة عن تواجد التمثال أسيس من الحقبة الرومانية، الذي يشبه إلى حد ما تمثال المرأة وطريقة جلوسها، لكنه يعود لرجل فوق صخرة (تحكي الأسطورة قصة الحب الحزينة للراعي أسيس مع عشيقته قالاتي التي لاقت حتفها بحجر ضُربت به نتيجة غيرة طرف ثالث) بحديقة الأمير عبد القادر حالياً غير البعيدة عن عين الفوارة، والتي أطلق عليها الفرنسيون حديقة orléances الواقعة على طريق باب الجزائر، ما يرجح أن إحضار تمثال المرأة ليس إلا لتقارب الشبه بين المنحوتتين.
المشكلة العويصة ليست في التمثال، وما ترويه المصادر التاريخية عنه، إنما في الجهل وأفكار الغوغاء التي غزت العقول لتصبح المتحكم والمحرك لتاريخ الأمة، فلا إعلام هادف، ولا باحث أو مثقف ينشد الحقيقة في مجتمع متخلف أنتج طبقة مثقفة جاهلة، تستهلك ما تتلقاه دون تمحيص، تُنظر فيه حتى التحف الفنية العارية نظرة لا يتصورها عاقل، تبعث حقاً على القلق، لتعرّي عما بداخل أفراده من مكبوتات فكرية توحي بخطورة الوضع.
لا ابن باديس ابن مدينة قسنطينة الذي يعد مرجعية في العلم والدين بالجزائر، ولا البشير الإبراهيمي ابن المنطقة من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين، أو أعضاؤها أثاروا موضوع الصنم المنصوب وسط مدينة سطيف، لا إبان الفترة الاستعمارية ولا بعدها، أم أنهم أجهل بالدين ممن نُعاصرهم؟
لماذا لم يثُر سكان سطيف يوماً ضد هذه المرأة العاهرة التي تضر بعقيدتهم خاصة أيام الاستعمار أم أنهم عبدة الأوثان؟
تمثال عين الفوارة حُكم عليه بالمؤبد في الأذهان كونه يصور امرأة عارية خادشة للحياء وجب رجمها، لكن هذا الوثن نطق وقال: "الصنم الأكبر تربع في عقولكم، وحيائي من جهلكم".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.