"قامت الفنانة الصربية (مارينا إبراموفيتش)، سنة 1974، بخوض تجربة غريبة جداً، تعتبر أشهر تجاربها على الإطلاق، حيث كان الهدف من التجربة التعرف على ردود فعل البشر إذا مُنحت لهم حرية القرار دون رقابة ولا شروط.
قرَّرت مارينا أن تقف على المسرح لمدة 6 ساعات متواصلة من دون حِراك، وأتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما يريدون، فوضعت بجانبها طاولةً بها العديد من الأدوات، منها السكين، والمسدس، والأزهار، وخلافه.
في بادئ الأمر كان ردُّ فعل الجماهير سلمياً، فاكتفوا بالوقوف أمامها ومشاهدتها، ولكن هذا لم يستمر كثيراً، فبعدما تأكدت الجماهير أنها لن تقوم بأي رد فعل مهما كان تصرفهم تجاهها، أصبحت الجماهير أكثر عدوانية، فقاموا بتمزيق ملابسها، وقام أحدهم بوضع المسدس على رأسها -ولكن أحد الأشخاص تدخَّل وأخذ المسدس منه- وقاموا بنكزها ببطنها بأشواك الأزهار، وتحرَّش البعض بها، وبعد أن انتهت الـ6 ساعات تحرَّكت مارينا من مكانها من دون اتخاذ أي رد فعل عدواني تجاه الجماهير. وما إن بدأت بالتحرك حتى سارعت الجماهير بالفرار".
هذه التجربة أثبتت لمارينا أن البشر الذين نتعامل معهم يومياً، مهما اختلف عرقهم وسنهم وخلفياتهم، قادرون على ارتكاب أفعال شنيعة إذا سنحت لهم الفرصة، فمَن أمِن العقاب أساء الأدب. وفي الحقيقة، إن مثل هذه السلوكيات تَظهر جلياً بوضوح في المجتمعات الهمجية التي لم تعتد على احترام الحدود الشخصية لمواطنيها.
القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والتسلُّط بظلم، دون رضا الشخص الآخر. وبالتالي فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره، الذي تعرَّض لفرض السَّطوة عليه من قبل المتسلط عَنوة.
قد يشعر الكثيرُ من الناس بالقهر نتيجة لبعض الظروف والأقدار الشخصية، التي تكون قاسية ومفاجئة إلى حدٍّ ما، وهذا سر صعوبتها. أما القهر الناتج عن وجود طرف سلطوي متحكم فيك وفي مصيرك، فهو أشد بؤساً وأقوى فتكاً؛ حيث لا يجد الإنسان المقهور بُداً من الرضوخ والتبعية في علاقته مع المتسلط؛ كونها الآلية الأنجح لاتِّقاء الأذى.
تتعدد صور وأشكال القهر في المجتمعات، بداية من الدكتور رئيس القسم المستبد، الذي يبتز طلبته مادياً أو جنسياً أو معنوياً، أو يضيّع عليهم أجمل سنوات عمرهم دون إعطائهم حقوقهم العلمية، أو يسطو على أفكارهم ويسرق عصارة فكرهم وعَرَقهم، مروراً بالموظف البيروقراطي الذي يُسيء استخدام سلطته، ويتعمَّد إذلالك وإهانتك، وتعطيل مصالحك إلى الحد الذي قد يودي بمستقبلك، وإهدار كل أحلامك، حتى ترضخ لابتزازه، أو يمنّ عليك بشقِّ الأنفس بعد استمتاعه النفسي بجرعات الرجاء والتوسل إليه، التي ترضي غروره المريض، نهاية بما تتعرض له المرأة في بعض المجتمعات الرجعية من بلطجة واستعلاء وتحرش جنسي.
كل هذه أمثلة عابرة لواقع أشد مرارة، يحطُّ من قيمة الحقوق، ويُعلي من قيمة الرضوخ، لكن للأسف، فإن تكاثر المظالم ما هو إلا مشروع اضطراب، يُضفي على العنف شرعيته، ويسحب من رصيد الأمن الاجتماعي، والاستهتار بالمؤشرات الأوّلية، يغري بتجاهل أنين المظلومين.
ويُعد غياب روح العدل والتراحم المجتمعي، إضافة إلى ترهّل أدوات المحاسبة والتقييم والعقاب، المسببات الرئيسية لتفشِّي ظاهرة القهر المجتمعي، ولو استمرَّت سطوة الفئات المتمكنة نسبياً دون رقابة واعية، فسوف يؤدي ذلك حتماً إلى انزلاق سريع متهوّر دون مكابح، ولا أحد يعلم متى وأين وكيف تتم السيطرة عليه، أو محاصرته على أقل تقدير؟!
لذلك، لا سبيل لتجنُّب المجتمعات، هذا الجرف العارم لسلوكيات القهر المجتمعي الموجود عند كل صاحب سلطة، يمارسها على مَن هم دونه، إلا بتعزيز الأدوات الرقابية الحيادية على جميع المستويات الإدارية بالحكومات، حتى يطمئن المواطن لوجود أجهزة حوله، إذا تعرَّض لابتزاز أي مسؤول.
لأن غياب القانون، أو عدم تطبيقه، كفيل بالتحريض على الفوضى وانتهاك حقوق الغير، حتى لو كان أغلب أفراد المجتمع مُسالمين؛ لأننا لسنا ملائكة، ولن نكون، فحتى المجتمعات المتحضِّرة تُقاس درجة تحضرها بمدى تطبيقها واحترامها للقانون.
إن بذور القهر المجتمعي ترتد -على مستوى الممارسة- في المجتمع الرجعي السلطوي، على وجه الخصوص، إلى الأسرة، وتنتقل العدوى المجتمعية تدريجياً إلى مستويات أخرى، وتتفشَّى فيها، كالمدرسة تحديداً، والجامعة غالباً.
تمسّ هذه العدوى القهرية كلَّ مكونات المجتمع، وبالتحديد الطفل، فعلى المستوى الأول، وهو الأسرة، فإن معاملتها الاستبدادية تحول دون تمكينه من استقلاله الذاتي، كما ينتج عن ذلك شخصية مضطربة تعاني من عدم الثقة بالنفس، ومن ضعف الشعور بالمسؤولية، ومن الجبن، إلى جانب الاتكالية على الشخصية السلطوية؛ ما ينتج عن هذا كله فرد مُغيب الإبداع الفكري والموضوعي في المجتمع، بل يغلب عليه تقبل الأحكام المسبقة، والقوالب الفكرية الجاهزة.
لذلك أقول إن للأسرة على وجه الخصوص دوراً مهماً استثنائياً، في مواجهة القهر المجتمعي، فما نراه من مظاهر القهر في مجتمعاتنا هو حصيلة مباشرة لمخزون تراكمي في السنوات الأولى لعمر الإنسان، ساهمت في تشكيل وعيه وإدراكه. والنشء الذي يتربَّى بشكل غير سوي، يسعى بشكل غير واعٍ للأسف لتعويض معاناته، فكمّ القهر والاستبداد الذي يُعاينُه الطفل في صغره، يحول دون تمكينه من استقلاله الذاتي، كما تنتج عنه شخصية مضطربة تعاني من الثقة بالنفس، ومن ضعف الشعور بالمسؤولية، ومن الجبن إلى جانب الاتكالية على الشخصية السلطوية، ما ينتج عن هذا كله فرد مُغيّب الإبداع الفكري والموضوعي في المجتمع، بل يغلب عليه تقبل الأحكام المسبقة والقوالب الفكرية الجاهزة، وهذا ما لا نرضاه أبداً للأجيال القادمة، التي ننتظر منها الكثير لصالح البلاد والعباد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.