لهذه الأسباب أرى أن الإنسان مسيّر لا مخير في حياته

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/13 الساعة 10:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/13 الساعة 10:05 بتوقيت غرينتش
A businessman with his back turned stands between two identical closed white doors. Make right choice. Important decision. Never fail.

يتفاخر الإنسان دائماً بأنه يمتلك الإرادة الحرة في خياراته وقراراته وسلوكه الشخصي. وبرغم ذلك التفاخر والاعتقاد بامتلاك الإنسان للإرادة الحرة، إلا أن السؤال عن حرية الإنسان الشخصية كان يُطرح دائماً في نقاشات المثقفين والفلاسفة والمتدينين. ولنقل إنه كان هناك شبه إجماع بين عشاق الحكمة – الفلاسفة – أن امتلاك الإنسان لحرية الإرادة ليس إلا وهماً، فما صحة هذا الافتراض!

باروخ سبينوزا

في الماضي غير البعيد، وربما إلى الآن، كان الناس في حالات معينة من الكوارث كالسيول والفيضانات الجارفة للمزروعات، وثوران البراكين وحصول الزلازل والاهتزازات الأرضية، يعتقدون أن هذه الكوارث ما هي إلا عقاب إلهي بسبب جهلهم بأسبابها. وهذا ما يؤكده الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (1632-1677) أن الناس عندما لا تفهم سبب أي حدث غير عادي يؤثر في حياتهم ولو مؤقتاً، فإنهم يعتبرونه معجزة! وبنفس الطريقة يؤكد سبينوزا أن الإنسان يعتقد أنه يمتلك الإرادة الحرة في الاختيار واتخاذ القرار والسلوك الفردي، على عكس الحقيقة، لأنه يجهل الأسباب الحقيقية لتلك الأفعال. ويقول في هذا الصدد: "لا يوجد مبدأ أو قيمة عقلية، أو إرادة حرة، بل إن العقل مقرر له أن يريد هذا الشيء أو ذاك لسببٍ معين مقرر بدوره لسببٍ آخر، وهذا الأخير مقرر بدوره لسبب آخر وهكذا إلى ما لا نهاية." أي أن هناك سلسلة من الأسباب وراء كل قرار للإنسان!

وعليه يعزز سبينوزا رأيه وبقوة في أن الإنسان لا يمتلك أي قدر من حرية الإرادة على الإطلاق، بل إنه يسفّه رأي من يقول إن الإنسان حر في خياراته. ويؤكد أيضاً أن القول إن الإنسان يمتلك إرادة حرة لهو من علامات الجهل والتخلف، ذلك أن الجسم البشري ليس إلا جزءاً من شبكة مادية ترتبط أجزاؤها وتتأثر ببعضها البعض من أجل البقاء. ولتوضيح ما يقصده سبينوزا يمكننا القول إنه إن جاع الإنسان فإنه يأكل، أو يذهب إلى العمل لحاجته للأجر، وينام لشعوره بالنعاس أو التعب، وهكذا من أجل أن يحافظ على حياته، وليس لأنه حر الإرادة!

ويضيف أن عقل الإنسان ما هو إلا جزء من شبكة علاقات منطقية لا يستطيع الإنسان أن يحيد عنها، كما يقول سبينوزا. فمثلاً، لا يستطيع الإنسان مقاومة الجاذبية، كما لا يستطيع أن يحصل على مجموع 5 عندما يضيف 2 إلى 2!! لذلك فليس لدى الإنسان شيء من حرية الاختيار على الإطلاق. ولا يشك سبينوزا في أن الإنسان يعي رغباته، ولكنه يجهل الأسباب التي قررت هذه الرغبات، ولهذا يعتقد أنه حر الإرادة! فمثلاً، إن الإنسان يعرف أن سبب الأكل هو الجوع، ولكنه لا يدرك ما الذي سبّب الجوع!

الحتمية السببية

وتثبت نظرية الحتمية السببية Determinism Causal انعدام حرية الإرادة لدى الإنسان، وتعني هذه النظرية الفلسفية أن هناك أسباباً لأفعال الإنسان واختياراته لا تظهر على السطح، وهي موجودة في نفس الإنسان وهي التي تدفعه لاختيار شيء معين أو اتخاذ قرار أو سلوك ما!

وللإيضاح أقول إن الإنسان أحياناً يذهب إلى المطعم وفي ذهنه طبق معين، وعندما يقرأ قائمة الطعام "المينيو" فإنه يغير رأيه ويختار طبقاً آخر لأسباب مستقرة في نفسه ولكنه لا يعيها! إذن، عندما لا يفهم الإنسان أسباب أفعاله فإنه يعتبر أنه يمتلك الإرادة الحرة وحرية الاختيار واتخاذ القرار والقيام بما يشاء من أفعال! وطالما أن هناك سبباً لكل فعل أو قرار أو خيار، فمن أين تأتي حرية الإرادة؟!

وقد يقول قائل ولكن في بعض الأحيان هناك أكثر من خيار أو قرار لنفس السبب، وعليه فللإنسان حرية الاختيار. فمثلاً، إذا حوصر مجرم في بناء مرتفع من قبل الشرطة للقبض عليه، فله أن يلقي بنفسه من أعلى طابق في البناء، أو يستسلم للشرطة! فهنا يملك الإنسان الإرادة الحرة للانتقاء بين خيارين. ولكن غاب عن ذهننا أن لكل من هذين الخيارين سبب. فإن ألقى بنفسه من الأعلى إلى الأرض فلأنه آثر الموت على السجن المؤبد، وإن استسلم للشرطة فإنه خشي الموت بهذه الطريقة المريعة! إذن، في كلتا الحالتين لم يكن حراً، حيث كان هناك سبب لكل قرار!

الإجبار

 وقد يكون الإجبار الذي يعتبر كالسبب في دلالته على عدم امتلاك الإنسان لحرية الإرادة ناجماً عن سبب من داخل الإنسان! فمثلاً، قد يقدم إنسان على الانتحار، فيأخذ مسدسه ويصوبه نحو رأسه ويطلق النار فيقتل نفسه! ويبدو هذا الفعل للكثيرين أنه قرار حر من إرادة حرة. ولكن لم ينتبه هؤلاء إلى أن هذا المنتحر قد يكون مجبراً على الانتحار، أي أن هناك سبباً دفعه لاتخاذ القرار، كوجود ميل للانتحار في جيناته الوراثية، أو بسبب تربيته في بيئة معينة في طفولته أثرت على بناء شخصيته بهذا الشكل الذي يقبل اتخاذ قرار الانتحار، وربما أنه لم يستطع حل مشاكله التي أحاطت به فقرر الهروب من هذه المشاكل المستعصية الحل بقتل نفسه!

إذن، من الممكن جداً، وربما من اليقين، أن هذا الإنسان كان مجبراً على إنهاء حياته! كما أن الإجبار قد يكون بسبب اتباع عقيدة معينة، دينية أو تربوية، حيث يجبر نفسه على رفض بعض التصرفات اتقاء لارتكاب ذنب، كأن يغض طرفه عن النظر إلى محرمات في دينه، أو يرفض الغش حتى وإن كان لمصلحته! كما أن تجنب مريض السكري لأكل الحلويات والنشويات ليس اختياراً حراً، بل اتباعاً لأوامر الطبيب. فالإجبار كما السبب لا يدل على امتلاك المرء لحرية الإرادة!

أينشتاين

وهذا عالم النسبية ألبيرت أينشتاين (1879-1955) يقول بأنه لا يؤمن بحرية الإرادة، ولكنه يؤمن بمقولة الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788-1860): "يستطيع الإنسان أن يفعل ما يريد، ولكنه لا يستطيع أن يريد ما يريد." بمعنى أن الإنسان له حرية تنفيذ رغباته، ولكنه ليس حراً في اختيار هذه الرغبات! ويؤكد أينشتاين أن هذه المقولة دائماً ما ترافقه وتواسيه في تعامله مع الناس. ويتابع أينشتاين بأن الاعتراف بعدم وجود حرية الإرادة لدى الإنسان، يحميه من إقحام نفسه وزملائه بشكل جدي عند التصرف مع الناس وعند الحكم عليهم وفقدان روح الدعابة! أي أن عدم تمتع الإنسان بحرية الإرادة، يدفعه إلى أن يكون لطيفاً في تعامله مع الناس!

السوبر كومبيوتر

نتيجة للبرمجيات الإلكترونية التي تقوم بالتجسس على مستخدمي الإنترنت والتي تسمى بالكوكيز cookies فإن جهاز الكومبيوتر يعرف الكثير عن شخصيات وهوايات ومفضلات أولئك المستخدمين. واليوم يؤكد الكثيرون من خبراء الكومبيوتر والإنترنت أن هذا الجهاز يستطيع التنبؤ بما يفعله مستخدمه غداً!! وحسب هؤلاء الخبراء، لو أتينا بكومبيوتر عملاق وسجلنا فيه محاكاة كاملة لبيئة شخص ما وحياته اليومية بكل تفاصيلها بدقة ليوم كامل. ولو أننا شغلنا هذه المحاكاة للحياة اليومية لشخص ما ليوم قادم – نفرض أننا في يوم الأحد، وشغلنا المحاكاة الإلكترونية عن يوم الإثنين. ولنراقب ونسجل تفاصيل حياة هذا الشخص فعلياً في اليوم التالي، أي يوم الإثنين ونقارنها بما سجله الكومبيوتر العملاق يوم الأحد عن يوم الإثنين، سنجد أن المحاكاة التي سجلت قبل يوم تتطابق بنسبة 99% مع الحياة الفعلية لذلك الشخص!

حتى اليوتيوب يقترح علينا مشاهدة فيديوهات معينة حسب مشاهداتنا السابقة ويكتب عليها: "يوصى به لك recommended for you". وكذلك تستطيع مؤسسات استطلاع الرأي معرفة من نفضل في الانتخابات من الرمز البريدي الخاص بكل ناخب! وبنفس تعرض شركة أمازون إرسال كتب معينة لزبائنها بناء على نوعية الكتب التي اشتروها من قبل! كيف يكون للإنسان إرادة حرة، طالما أنه يعرف ما يحب وما يكره، فيفعل ما يحب ويتجنب ما يكره، وربما كل المحيطين به يعرفون ذلك!

الخلاصة

فهل عقولنا مبرمجة؟! وعليه فكل خياراتنا وقراراتنا ما هي إلا اتباع للـ"كتالوج" الذي نحمله في جيناتنا الوراثية وبيئة طفولتنا! هل نحن عبيد للجينات الوراثية التي لا حول لنا عليها ولا طول، وتحت تأثير بيئة الطفولة التي رُبينا فيها ولا دخل لنا بها وإنما تقع المسؤولية على الأبوين اللذين قد يكونان قليلي التعلم والحيلة في تربية الأطفال، أو حتى أميين؟!

هل كانت أحكام محاكم البشرية عبر القرون الطويلة صحيحة ودقيقة، أم أنها كانت ظالمة نتيجة الجهل بعدم وجود إرادة حرة لدى البشر؟ وهل تأخذ المحاكم اليوم بهذه الحقائق، أو على الأقل شبه الحقائق حسب رأي البعض؟! والأهم هل نعذر بعضنا البعض ونتخلى عن التعصب ونتبنى التسامح عقيدة؟!

 

مصادر سبينوزا:

Spinoza, part 5: On human nature

Philosophy: Free Will vs. Determinism

مصدر أينشتاين

Philosophy: Free Will vs. Determinism

مصدر السوبر كومبيوتر

Dreams OBEs and Free Will 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
توفيق الياسين
باحث وكاتب
تحميل المزيد