ما زلتُ أراهم في كوابيسي: أطفال ميتون في أكفان بيضاء يحدّقون بي بنظراتٍ جامدة. كنتُ أراهم طوال الوقت عندما كنت أعمل في حلب.
عدتُ للتو من رحلة عملي الأخيرة في شمال سوريا. هذه المرة كنتُ بمنأى عن كل تلك الأهوال.
هناك، بإمكانك أن ترى حياةً تحاول العودة إلى وضعها الطبيعي: مقاهٍ وأسواق ومنصات بيع الفواكه. لكنَّك لا تزال ترى أُسَر اللاجئين تكافح للعيش في خيام منصوبة في أماكن تصل درجة الحرارة بها إلى 38 درجة مئوية. هرب الكثيرون من حلب والمناطق التي مزقتها الحرب في الجنوب. لم يكن لديهم مكانٌ آخر يذهبون إليه.
التقيتُ بالأطباء والممرضين الذين عملتُ معهم في حلب. بدأوا عملهم هنا في المستشفيات المحلية. لابد أن تمضي الحياة. المعاناة لا تنتهي عندما يتوقف إلقاء القنابل. وهناك دائماً حاجة للأطباء في هذه الظروف.
معظم الحالات هنا تعاني من مشاكل صحية تقليدية. يعود أغلبها لصدمات البرد: كان على المرضى الذين نجوا من إصاباتهم أن يتعلموا كيف يتعايشون مع إعاقاتهم وضمور أجسادهم.
كان أحد الشبان قد فقد ساقه اليسرى إثر إصابتها بشظية. وخضع لعملياتٍ جراحية متعددة وعمليات ترميم استمرت لعدة أشهر في محاولةٍ لإنقاذها، لكنها أصبحت مجرد كتلة من اللحم اليابس والعظام الهشة، ولم يكن أمامه خيار سوى بترها من فوق الركبة.
وتهشمت فخذ شاب آخر بفعل انفجار قنبلة. فقد تحولت منطقة الحوض لديه إلى كتلة من العظام المشوهة، مما تسبب في ضمور الفخذ وتقلص حجم الساق. لا يمكن إجراء عملية جراحية له هنا، وكل ما يمكنه فعله هو السير على عكاز.
وطفلة أخرى كانت يدها على وشك أن تتمزق وهي في حلب، لكنَّها خضعت للخياطة. وتحولت يدها إلى كتلة من الأوتار والعظام لا تستطيع تحريكها. ولم تُجدِ أي عمليةٍ من عمليات إعادة الترميم هنا نفعاً.
لقد رأينا العديد من تلك الحالات. وكل ما يمكنك فعله هو مساعدة من يمكنك مساعدته، ومواساة الآخرين.
لكنَّ ما كان يوماً هادئاً هنا في الشمال كان دامياً للأطباء المتواجدين في أقصى الجنوب في إدلب. ففي نفس اليوم، قتل القصف الجوي أكثر من 40 شخصاً. وأرسل طبيب محلي رسالة نصية مفادها أنَّ ما حدث في حلب يتكرر بحذافيره هناك. أجسام مشوهة، وأطفال صرعى، وأشلاء تغطي الأرض، وأنهار من الدماء يصل مستوى ارتفاعها إلى الكاحلين.
هذه مجرد مقدمة بسيطة لما هو آتِ، فالنظام السوري يُصعِّد من وتيرة هجماته لاستعادة إدلب، التي تؤوي ثلاثة ملايين نسمة. ولن تكون المنازل أو المدارس أو المستشفيات بمنأى عن هجماته حتى يحرز النصر.
أعود إلى الوطن بعد هذه الرحلات، والمثقفون الذين لم تطأ أقدامهم أرض سوريا يتشدقون بقولهم إنَّ الأمر معقد للغاية ولا يمكن فعل شيء. أتحدى أولئك أن يقضوا يوماً واحداً في العمل التطوعي في مستشفى ميداني في سوريا، يبترون أطراف الأطفال وينظفون الأرض من الأشلاء التي غطتها، ويضعون جثث الأطفال المشوهة في بدائل مؤقتة لأكياس الجثث، ثم أطلب منهم بعد ذلك أن يغردوا على تويتر وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة أو على أحد المقاهي بأنَّه لا يمكن أو لا يجب فعل شيء.
هناك أشياء مُروِّعة تحدث في جميع أنحاء العالم، إطلاق نار وتفجيرات وعمليات قتل جماعية. أما في سوريا فتلك الأشياء أصبحت جزءاً لا يتجزأ من روتين الحياة اليومي. لكنَّ الأشخاص الجيدين يرتقون دائماً إلى مستوى الحدث، فتراهم يهرعون لمساعدة الجرحى.
رأيتُ ذلك في السوريين الذين أصروا على البقاء، الممرضين والممرضات والأطباء ومعلمي المدارس. رجال ونساء يعملون في المدارس والمستشفيات ودور الأيتام دون أن يكونوا بمنأى عن القصف المدفعي والضربات الجوية. إنَّهم يجابهون هذه الظروف يومياً وهم عُزَّل من السلاح، يفعلون ذلك وهم على علم تام بأنَّ العالم قد تخلى عنهم، وأنَّ عليهم القيام بواجبهم بمفردهم.
تمكنتُ من رؤية بعضهم في رحلتي الأخيرة: أصدقاء وزملاء من حلب. يعمل العديد منهم الآن في إدلب. كان حارس المستشفى واحداً من أشجع الرجال الذين التقيتهم في سوريا. فهو إما يحمل المرضى من على الأرض وينقلهم إلى غرفة العمليات، أو ينظف الأرض من بقايا الأشلاء والدماء. كان صلباً رابط الجأش، ثابت الجنان متأهباً لمساعدة جرحى وضحايا الهجوم التالي، رغم علمه بأنَّه قد يخر صريعاً أو ممزقاً بجوار أولئك الذين كان يقدم لهم يد العون.
يخبرني من هم على شاكلته أنَّهم يفضلون المخاطرة بأرواحهم في سبيل إنقاذ الناس في سوريا على العيش بأمان في مكانٍ بعيد يرقبون بلدهم وهي تنهار. علَّموني أنَّ هناك ما يستحق القتال والموت لأجله، وأنَّ هناك طرقاً أخرى لمحاربة الإرهاب والقمع لا تتطلب استخدام القنابل أو طلقات الرصاص. في بعض الأحيان، كل ما عليك أن تفعله هو أن تأتي وتقدم يد العون. وهؤلاء هم من أرغب في تذكرهم عندما يسألني أحدهم عن سوريا.
أعلم أنَّه لا أحد سيأتي لمساعدتهم. كثيراً ما نسمع عبارة "محال أن نكررها ثانيةً". وهي عبارة يرددها الكثيرون. عندما تنتهي المذبحة في إدلب، سنتساءل مرة أخرى: كيف سمحنا لهذا أن يحدث. كل ما يمكنني فعله من موقعي هذا هو أن أدلي بشهادتي وأشارككم تجاربهم.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.