صعّد الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه الروس من القصف الجوي لمحافظة إدلب في شمال غربي سوريا، التي تعتبر آخر محافظة تسيطر عليها المعارضة بسوريا. ومن المتوقع شن هجوم كبير لفرض السيطرة على إدلب، حيث يعيش 3 ملايين شخص.
تُعد محافظة إدلب ملجأً لأعداد كبيرة من السوريين الذين نزحوا من القرى والمدن التي استولت عليها قوات الأسد. لن يكون هناك معقل مشابه لإدلب بعد أن تستولي قوات النظام عليها. وقد أظهر النظام وأنصاره الروس تجاهلاً تاماً للعدد الهائل الكارثي من القتلى بين صفوف المدنيين، الذي قد يتسبب فيه هجوم شامل.
وعلى التلفزيون السوري الرسمي، شبهت الحملات الدعائية لنظام الأسد الحل الذي يُمكن تطبيقه في إدلب بعملية معالجة القمامة، فقد قال أحدهم: "أنت تجمع القمامة، ثم تفصلها، وتعيد تدوير ما يمكن إعادة تدويره وتدفن الباقي في الأرض".
تحدثنا إلى 3 أشخاص من مناطق مختلفة بمحافظة إدلب عن طبيعة الحياة في منطقة حرب:
ياسر، شاب يبلغ من العمر 33 عاماً، يعمل بنَّاءً، من مدينة خان شيخون
في كل صباح، أستيقظ وأشاهد الأخبار. ونتحدث بلا هوادة عن مصير إدلب. ولكن الناس يعتقدون أن روسيا ستهاجم مهما كلف الأمر.
لا تزال المتاجر الصغيرة التي تبيع الخبز والخضراوات مفتوحة، لكن معظم المحلات والأعمال الأخرى قد أغلقت أبوابها. كما توقفت الزراعة، وكذلك أعمال البناء. وقد أُغلق المستودع الذي يبيع الإسمنت. وقبل بضعة أيام، تم قصف مدرسة قريبة. لحسن الحظ كانت مغلقة، ولم يصب أحد بأذى.
يعمل بعض الناس على حفر ملاجئ تحت الأرض ويخزّنون المواد الغذائية. نخشى وقوع المزيد من هجمات الغازات الكيماوية. ولذا، يحاول الناس صنع أقنعة الغاز بكل ما يتوافر لديهم من إمكانات، ولكن الأمر لم يفلح حتى الآن.
لا يزال الجنود الأتراك متمركزين في بلدة مورك القريبة، التي تقع على الخط الأمامي (مع القوات الحكومية السورية). ونواصل سماع تصريحات مطمئنة من المسؤولين الأتراك، لكن معظم الناس لا يعتقدون أن تركيا يُمكن أن تمنع حدوث الهجوم.
كنت هنا في خان شيخون العام الماضي (2017)، عندما هاجم النظام المدينة باستخدام الأسلحة الكيماوية، غير أنني كنت أعيش مع عائلتي على الجانب الآخر من المدينة؛ ولذلك لم نتأثر. ذهبت إلى موقع الهجوم الكيماوي في اليوم التالي، ووجدت الشوارع خالية. مات الكثيرون من سكان الحي، وخاصةً أولئك الذين كانوا مختبئين في الملاجئ. وقد نجا أولئك الذين تسلقوا على أسطح المنازل.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد حذرت نظام الأسد من استخدام الأسلحة الكيماوية، فإننا لا نستبعد حدوث ذلك الاحتمال. نحن بلا حماية، عاجزون عن الدفاع والمقاومة، ولا نمتلك حتى المعدات الأساسية اللازمة لحماية عائلاتنا من مثل هذه الهجمات.
أنا لا أستعد للغزو؛ بل أحاول الفرار إلى تركيا مع عائلتي. سنغادر قريباً، ونتوجه إلى الحدود.
لقد عملت ضابط شرطة بقرية مجاورة في عام 2011، عندما بدأتْ حملة القمع ضد المتظاهرين. وصدرت إلينا أوامر بضربهم، أولاً باستخدام العصي، ثم باستخدام مناخس الماشية. وسرعان ما أرادت الحكومة أن نطلق النار على المتظاهرين. وصرت أمام خيارين؛ إما أن أنْشَقَّ وإما أن أقتل الناس. وقد آثرت أن أنْشَق عن قوات الشرطة.
فرضت المعارضة سيطرتها على مدينة خان شيخون في وقت مبكر. لقد عشنا هنا سنوات تحت طائلة القصف الجوي، لكن الآن، إذا تقدَّم النظام، فليس هناك خيار آخر بالنسبة لي سوى العبور إلى تركيا. يجب أن أنقذ عائلتي. كل ما نريده هو البقاء في بيوتنا وعيش حياتنا.
أم محمد، سيدة في أواخر الأربعينيات من عمرها، تعمل ربَّة منزل، من مدينة كفرنبل
أعيش في مدينة كفرنبل مع أبنائي الثلاثة وأُسرهم. فقد ترك ابني، البالغ من العمر 27 عاماً، الدراسة في كلية الحقوق بحلب بعد انطلاق الانتفاضة في عام 2011، وأصبح يعمل بنَّاءً؛ لكي يتمكن من تقديم الدعم لنا. قبل عامين، أصابت غارة جوية أخاه الأصغر. واستغرق الأمر عاماً من الشفاء، ولزم تركيب شرائح ومسامير معدنية في ساقه؛ لكي يكون قادراً على العمل مرة أخرى.
كل ليلة ننام على أصوات الطائرات المقاتلة، ونستيقظ كل صباح على الصوت نفسه في خوف وفزع. من الصعب للغاية القلق طوال الوقت على أبنائي. يتحدث الجميع عن الهجوم. وليس لدينا مفر سوى أن نهرب ونصبح بلا مأوى؛ لأنه إذا بقينا، فسيلقي النظام القبض على أبنائي، ولو لمجرد أنهم تهربوا من الخدمة العسكرية الإلزامية سنوات.
لقد شعرنا بالتعب والإرهاق الشديدين. استمرت الحرب، واستمرت معها معاناتنا، سنوات. عندما أتحدث إلى الناس مِن حولي، أسمع الكثير ممن يريدون أن تسيطر تركيا على هذه المنطقة. ويقولون: "على الأقل، لن نقلق بشأن أطفالنا". إذا جاء النظام إلى هنا، فسيتم استهداف الجميع.
لقد أخبرتنا النساء اللاتي أعرف أنهن قد نجون من الأَسر في أثناء الأحداث التي وقعت بمدينة الغوطة الشرقية، بالكثير من القصص، عن جرائم القتل والاعتقالات الجماعية. فقد ألقى الجيش السوري القبض على الشباب، إما لاعتقالهم وإما لتجنيدهم في الجيش. لقد تعرضوا للإهانة والإذلال.
نحن نخشى ألا يتم العفو عن أحد في إدلب.
حنين، شابة تبلغ من العمر 25 عاماً، تعمل ناشطة وكاتبة، من محافظة إدلب
كنت أدرس في جامعة حلب عندما بدأت المظاهرات بربيع عام 2011، وبدأت المشاركة في تلك الاحتجاجات. اعتقل النظام العديد من أصدقائي وزملائي. ولذا، تركت الدراسة تضامناً معهم. يعتبر التوقف عن الذهاب إلى الجامعة إحدى كبرى الخسائر في حياتي. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الثورة شاغلي الوحيد بحياتي. لقد نشأت وترعرعت خلال الثورة.
عُدت إلى محافظة إدلب، وحاولت أن أجد دوري في الثورة. لم أستطع القتال وما زلت لا أؤمن بعسكرة الثورة، بالإضافة إلى أنني لا أؤيد أي جماعة مسلحة. ولذا، فقد أصبحت ناشطة، أساعد في تنظيم الاحتجاجات وأكتب مقالات خاصة عن القضايا التي تؤثر على حياة النساء والأطفال.
لقد تزوجت وطُلقت خلال الثورة، وأعيش الآن مع عائلتي. إنهم يدعمونني على الرغم من الآراء السلبية التي يتبناها مجتمعنا تجاه النساء المستقلّات المطلقات.
لقد تعرضت في أثناء وجودي بإدلب مراراً وتكراراً، للاعتقال والمضايقات من قِبل الجماعات الإسلامية. وذات مرة، استقللت حافلة صغيرة إلى المنزل من العمل. وبعد أن نزل جميع الركاب الآخرين من الحافلة، لم يبقَ سواي أنا والسائق فقط، ومررنا على نقطة تفتيش تديرها "هيئة تحرير الشام" (وهي جماعة كانت تابعة في السابق لتنظيم القاعدة، وتُعد أقوى فصيل مسلح في إدلب).
احتجزني المقاتلون بسبب أنني أسافر بلا مُرافق. وعندما حاولت التفاهم والتحدث بالمنطق معهم، أثاروا شكل حذائي وحقيبة يدي الملونة.
لديَّ رموش طويلة بشكل طبيعي، واتهموني بأنني أضع مساحيق التجميل. وأجبروني على غسل وجهي أمام مجموعة من المقاتلين والمارة! لقد كان الموقف مهيناً. معظم الناس في إدلب والمناطق المحيطة بها لا يدعمونهم.
بسبب عملي ناشطة، أنا متأكدة من أنني مطلوبٌ القبض عليّ من قِبل الفروع الأمنية لنظام الأسد. ومع ذلك، فأنا ضد الفرار. عليَّ البقاء هنا، حتى عندما يأتي جنود النظام. قد أموت، لكنني أفضّل ذلك على الموت ببطء في بلد آخر. بالنسبة للآخرين، فإن التعرض للقتل برصاص حرس الحدود أفضل من أن يُلقى القبض عليهم من قِبل الجيش.
على الرغم من أن ذلك مؤلم، فأنا لا ألوم الأشخاص الذين آمنوا بقضيتنا وحريتنا، ولكنهم شعروا بالملل بسبب هذا الصراع، فهم لم يعيشوا حياتنا. كان يتعين على الأشخاص الذين توقفوا عن الاهتمام بالسوريين بعد صعود الجماعات الإسلامية، ألا ينسونا. فنحن بحاجة إلى ثورة ضد هذه الجماعات المتطرفة، بقدر ما نحتاج إلى ثورة ضد نظام الأسد.
لن نستسلم بعد كل هذه السنوات. في الآونة الأخيرة، نظمنا وجمعنا الحشود من أجل إقامة سلسلة من المظاهرات ضد روسيا والنظام و"هيئة تحرير الشام"، وسنستمر في التظاهر.
إدلب ليست النهاية. قد نموت، لكن هذه المعركة ستستمر أجيالاً.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.