فى البداية ملحوظة صغيرة: تعلم أنني أحبك كثيراً يا أبي فلولاك ما كنت أنا.
المكان: بيتنا الصغير في إحدى محافظات القاهرة الكبرى
الزمان: 2002
كان أبي يجلس على مكتبه الصغير ليلاً يستمع إلى إحدى أغنيات الست لتؤنس وحشته خلال عمله.. ثم أغنية لعبدالحليم حافظ "حكاية شعب".. عندها انطلقتُ أنا مثل الصاروخ بالسؤال: بابا أنا كان نفسي أعيش في زمن عبدالناصر.
أبي: ليه؟
أنا: كان عنده حلم كبير لمصر والبلد اتقدمت على إيده، والناس كده تحس إن ليها كرامة.. وكان كل العرب متحدين مع بعض (الكلام لفتاة عمرها 12 عاماً).. شايف إنت الأغاني اللي كانت على أيامهم كلها حماس وقوة.
أبي: ممكن.. بس في الوقت نفسه مكنش في حرية، مفيش أحزاب، محدش يقدر يقول لا، واللي كان زوّار الفجر بياخدوه مكناش بنشوفه تاني.. وعلى فكرة على أيامه كانوا كتير، والناس اللي بتروح المعتقلات مش بنسأل عنها، أنا بحترمه وبس.
صمت تام.. ثم أنا بصوت عنيد: بس برضه أنا بحب ناصر..
المشهد الثاني:
المكان: بيتنا الصغير
الزمان: بداية عام 2011
أنا: شوفت يا بابا في راجل حرق نفسه أدام مجلس الشعب زي اللي حصل في تونس.. عقبالنا لما يكون في ثورة
أبي: وبعد ما يبقى في ثورة..
أنا: هنغير البلد
أبي: أنتوا جيل متمرد، عايزين فكرة التغيير لمجرد التغيير مش باصين لمصلحة البلد.. مش مقدرين نعمة الاستقرار.
أنا بصوت عنيد: وماله؟!
المشهد الثالث:
المكان: أمام شاشة التلفزيون في بيتنا الصغير
الزمان: أواخر عام 2012
التلفزيون يذيع التعديلات الدستورية التي أقرها الرئيس المعزول الأسبق محمد مرسي
ينظر أبي بسخرية للتلفزيون ثم يأتي بإحدى القنوات التي تذيع الاشتباكات أمام قصر الاتحادية، ثم يقول وقد ملأت وجهه نظرة ألم وغضب: غيرتوا البلد أنت وجيلك؟!
أنا: كل حاجة وليها تمن واحنا مش مع اللي بيحصل دلوقتي ولا اللي عمله مرسي.
أبي: كل حاجة ليها تمن وذنب البلد إيه معاكوا.. هتضيعوها وتضيعونا معاكوا.
أنا: يا بابا أي ثورة نتايجها مش بتظهر عالطول.. وكمان اللي عمله مرسي الناس مش هتسكت عليه.
أبي: آه بقى.. ونعيده تاني، نفس الكلمة اللي قولتيها – الناس مش هتسكت – لما الناس ماتت في محمد محمود السنة اللي فاتت، الناس مش هتسكت على اللي بيعمله العسكري، ونفس الكلمة لما الناس ماتت في ماسبيرو، ونفس الكلمة اللي قولتيها لما النشرات ذاعت إن الناس بتموت أدام مجلس الوزراء، ونفس الكلمة قولتيها لما الناس ماتت تاني في محمد محمود الشهر اللي فات.. مش كفاية بقى؟
أنا: يا بابا..
أبي (مقاطعاً): بس.. إنتوا لا عملتوا تغيير ولا غيره، وجيلكوا ده هيودي البلد في داهية.
أنا: يا بابا..
أبي (مقاطعاً مرة أخرى): كانت البلد ماشية وحالها ماشي، إيه اللي استفدناه من جيلكوا غير تعب القلب والبهدلة في آخر زمانا.
المشهد الرابع:
المكان: في طريق العودة بأحد الباصات الحكومية من الهرم
الزمان: 14 يناير 2014
الناس تملأ الشوارع ترقص على أنغام تسلم الأيادي وتلتقط الصور، يطلقون الألعاب النارية التي أضاءت السماء ليلاً حتى تكاد تنافس الشمس في ضيائها؛ احتفالاً بالاستفتاء على الدستور معظمهم من كبار السن ممن تجاوزت أعمارهم الأربعينيات والخمسينيات معهم أطفالهم الصغار.. لا يوجد شباب إلا نادراً.
الراديو في الباص يذيع أغنية "حكاية شعب" لعبدالحليم حافظ.. وفي البيت يخبرنا أبي بأنه قام بالتصويت في الاستفتاء بنعم؛ أملاً في الحفاظ على الاستقرار، بل وشجع معظم أصدقائه ممن تجاوزت أعمارهم الـ50 عاماً للتصويت بنعم.. يسألني عما إذا قمت بالتصويت، فأخبره يأنني لم أصوت من الأساس: الدستور ده مش بتاع جيلنا.. مش هيحقق لنا ثورتنا؟!
ليرد عليّ أبي بنظرة ملتهبة: ليه؟ حلمك اتحقق وإنتي عايشة دولقتي زمن عبدالناصر!
المشهد الخامس والأخير:
المكان: بيتنا الصغير
الزمان: أصبحت الأيام تشبه بعضها.. لكنه كما تظهر في النتيجة صباح يوم ثلاثاء ما
أكتب كلمات أحاول التعبير بها لأبي عما فعله هو وجيله في جيلنا:
لم نرد سوى التغيير يا أبي.. لم نرد سوى التغيير.
لماذا يا أبي؟ لماذا فعلتم بنا ذلك؟ لماذا قررتم رسم مصيرنا؟ ونسيتم أنه حقنا؟ إن لم تكفله دولتكم بنظامها تكفله الطبيعة وقوانينها التي تؤكد أنه لكل جيل أحلامه.. لكل جيل حق اختيار مصيره، لماذا يا أبي قررتم وأد ثورتنا؟ لماذا تأخذون قراراً بالنيابة عن جيل كامل وأنتم تعلمون جيداً أنه وحده من سيتحمل النتائج؟ لماذا يا أبي؟!
لم نُرِد سوى التغيير يا أبي، لم نُرِد سوى أن نستيقظ صباحاً فنأخذ نفساً عميقاً، به أوكسجين وهيدروجين حرية، لم نرد سوى أن تتحقق العدالة الاجتماعية فيكون ابن البواب القريب من بيتنا له نفس حقوق ابن وكيل الوزارة جارنا، لم نرد الفوضى أو التدمير كما تتهمونا، بل أردنا إزالة هالة التراب التي غطت وجه الجميلة مصر.
لم نكن يوماً خونة أو عملاء كما يرانا جيلكم يا أبي، لسنا مأجورين، ولكننا سأمنا الذل والإهانة، كرهنا الخوف، مقتنا الظلم والجبن، لم نعد قادرين على تحمُّله كما تحملتم أنتم، لا لسنا جيلاً يمشى جنب الحيط يا أبي، بل نحن نريد صنع مستقبلنا بأنفسنا، إن لم يكن لنا فلأطفالنا فما ذنبهم فيما صنع ويصنع أجدادهم.. أجدادهم الذين مازالوا يعيشون على وهم انتظار المحارب المخلص القوي الذي يحمل عنهم آلامهم ويحقق عنهم أحلامهم.. مازالوا واهمين بأن الاستقرار هو أن تقبل كافة ما تأباه الإنسانية فقط لكي تحافظ على رمق الحياة في جنبات الجسد.. لكنه ميت إكلينيكياً منذ 60 عاماً.
حقاً ماذا فعلتم بنا يا أبي؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.