كيف يؤثر الإعلام في تشكيل الصورة الذهنية لدى الجمهور؟ القرش والفيل نموذجاً!

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/12 الساعة 08:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/12 الساعة 08:07 بتوقيت غرينتش

الإعلام يُسهم بشكل كبير في تشكيل انطباعنا عن جُلّ الأشياء، إنْ مدحه الإعلام فهو جيد، وإن ذمَّه فهو بكل تأكيد أمرٌ غير مرغوب فيه، وهذا ما يُعرف بالصورة الذهنية.

 

والصورة الذهنية هي الصورة العقلية التي تتكون في أذهان الناس عن الأشياء المختلفة، وذلك بحسب المعلومات والأخبار التي يتلقاها الناس، أحياناً تكون هذه الصورة عقلانية، وأحياناً غير ذلك، لكنها في نهاية المطاف تمثل واقعاً صادقاً بالنسبة لمن يحملونها في رؤوسهم.

 

لعب الإعلام دوراً كبيراً وخطيراً بذات الوقت في خلق هذه الصور الذهنية عن كل الأمور، وبسبب الانتشار الكبير لوسائل الإعلام وكمية الأخبار الكبيرة التي تبثها باتت من أهم القنوات في تشكيل الصور الذهنية لدى الناس.

 

القائمون على وسائل الإعلام يختارون المعلومات وفقاً لأهوائهم – السياسية، الدينية، القومية.. إلخ. وهو الأمر الذي يزيد من تغيير الصورة لدى المتلقين، فهي الوسيلة الرئيسية لنقل الصورة والآراء والأفكار، وتدعم وسائل الإعلام الصورة الذهنية الموجودة سابقاً في أذهان الأفراد فتضفي عليها بُعداً أوسع، لكن دورها الأكثر أهمية يكمن في عملية خلق صورة ذهنية عن الموضوعات الجديدة التي لا يملك الفرد عنها أي معلومات، وهنا تكمن كل الخطورة.

 

وسائل الإعلام تلعب ثلاثة أدوار في صناعة الصورة الذهنية، فهي: إما أن تكون ساحة أو طرفاً أو أداة لطرح التصورات، وتلجأ الحكومات والقوى السياسية المختلفة لاستخدام وسائل الإعلام كساحة تطرح فيها تصوراتها، أو قد توظفها كأداة لدعم وتثبيت تصوراتها، وأحياناً تكون طرفاً فاعلاً له مفاهيمه وتصوراته، وقد تتداخل الحالات الثلاث وتتفاعل لتصبح وسائل الإعلام ساحة وأداة وطرفاً في الوقت ذاته.

 

وبعد أن تنجح وسائل الإعلام في تثبيت الصورة الذهنية التي تريدها في ذهن المتلقي، يصبح من الصعب حذفها، يمكن لوسائل الإعلام -كما أسلفنا- أن تدعم هذه الصورة أو تضيف لها بعض التفاصيل، لكن عملية إلغائها تعد من العمليات الصعبة.

ونلحظ ذلك حين تبث وسائل الإعلام بعض الأخبار التي لا تتناسب مع الصورة الذهنية الموجودة عندنا مسبقاً، فيرفضها العقل -حتى وإن كانت حقيقية- ونشعر بأن هناك نفوراً منها وعدم رغبة في الاستماع إليها.

 

رغم ذلك لا يمكن القول إنه من المستحيل تغيير القناعات المثبتة لدينا والتي خلقتها المعلومات المتراكمة سواء بقصد أو من خلال تجارب في الحياة، لكن يمكننا الجزم بأنه أمر صعب ولا ينجح مع الجميع، وهذا هو مكسب الإعلام الموجّه، هذا النوع من الإعلام يهمّه التأثير على العدد الأكبر من الناس، وعلمياً وتاريخياً يمكننا أن نقول إن الأغلبية تتأثر وتخلق عندها الصور الذهنية التي يرغب الإعلام -سواء كان أداة أو ساحة أو طرفاً- في ترسيخها ولا ينجو منها إلا أعداد بسيطة، منهم من يقاومها ومنهم من ينجح في تعديل هذه الصورة المثبتة عنده.

 

لكن في جميع الأحوال يبقى للإعلام اليد الطولى في هذا الأمر، فحتى مَنْ يقاوم هذه المعلومات يقاومها لأن لديه صوراً ذهنية مختلفة صنعها إعلام آخر من قبل، وبتغيير قناعته وتعديل شكّل الصورة التي يملكها يكون -في الغالب- قد تأثر بما يُنشر من معلومات من وسائل أخرى!

 

كثير من الدراسات ذهبت إلى أن هناك عوامل أخرى قد تكون أكثر أهمية في خلق الصورة الذهنية، منها على سبيل المثال المكون الديني، والتنشئة الاجتماعية، والخبرة الشخصية، والسمات النفسية والاجتماعية، والقابلية للانخداع، والكسل العقلي، والجهل.. إلخ، لكن المؤكد والمثبت هو أن وسائل الإعلام قادرة على استغلال كل هذه العوامل لصالحها.

 

وسائل الإعلام لها القدرة على تزييف الواقع -أو نقله كما هو- إن أرادت، وهذه أمور علينا أن نعيها حتى لا نصدق كل ما يبث عبرها، فهي تعمل من خلال الانتقاء المتعمد لبعض المشاهد والمفاهيم والكلمات والصور وتكرارها مع استبعاد كلمات ومشاهد أخرى على النحو الذي تجعلنا نظن أن كل ما يتم عرضه في وسائل الإعلام هو الواقع الحقيقي، وبما أنها قادرة على أن تخلق ذلك الواقع الافتراضي "المشوّه" فهذا يعني أنها الوحيدة القادرة على إبقائه ثابتاً في أذهان الجماهير عبر توظيفها آليات التكرار والملاحقة، والحشد والتعبئة، وصناعة الخوف من خلال الترهيب والترغيب.. إلخ.

 

ويتضح ذلك جلياً في أبسط الصور، مثلاً في أفلام السينما، فهي ليست مجرد مواد معروضة للترفيه والكسب المادي فقط وإنما هي واحدة من أهم وسائل الإعلام المستخدمة، فقد ساهمت السينما في خلق صور ذهنية منتقاة بعناية لدى الملايين من البشر عن العديد من الشخصيات والمناطق وحتى دول بكاملها، والحيوانات لم تسلم من تشويه صورتها لدى الناس، حتى أن العديد من علماء الأحياء المائية طالبوا في أكثر من مناسبة مخرجي الأفلام بعد الاستمرار في تشويه صورة أسماك القرش لتحقيق المكاسب المادية وتصويرها كأنها وحوش متعطشة للدماء تهاجم البشر، فأفلام أسماك القرش دائماً تلقى رواجاً كبيراً في شباك التذاكر.

 

علمياً أسماك القرش نادراً ما تهاجم البشر، فهو ليس في قائمة طعامها المفضل، وهذا لا يعني أنها كائنات مسالمة بكل تأكيد، فمتوسط عدد الهجمات التي يتعرض لها الإنسان من أسماك القرش لا تتعدى 50 هجمة سنوياً، ولم يتجاوز أكبر عدد للقتلى 6 أشخاص في جميع أنحاء العالم، من جهة أخرى يقتل الفيل سنوياً 300 شخص بحسب آخر إحصائيات الحكومة الهندية!

 

هذا مثال بسيط على الكيفية التي تعمل بها وسائل الإعلام فهي قادرة على التزييف وخلق واقع غير صحيح والتركيز على أمور وغضّ الطرف عن نقاط أخرى لا تخدم مصالحها، كما هو الحال في قضية "القرش" والفيل!

 

أتذكر موقفاً مضحكاً حدثني به أحد الأصدقاء، عن شخص صياد سمك، وبينما هو يصطاد لاحظ وجود سمكة قرش تسبح بالقرب منه، انتابت الصياد حالة هلع وخوف شديدة ولملم شبكته على عجل وأضحى يسبح بعنف وبسرعة نحو القارب حيث يوجد بقية أصدقائه.

 

وبينما هو يسبح بهذا الشكل العنيف علقت قدمه بالشبكة التي يحملها فصرخ صرخة كبيرة وأغمي عليه في الماء ظناً منه أن سمكة القرش لحقت به وأمسكت بقدمه!

إنها الصورة الذهنية التي خلقتها وسائل الإعلام عن أسماك القرش في عقله، والتي من الصعب أن يغيرها حتى بعد أن علم -بعد استيقاظه- أن قدمه هي التي علقت بالشبكة بينما فرّ القرش بعيداً خوفاً من صراخه العالي!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عماد المدولي
صحفي ليبي
تحميل المزيد