كيف تجعل شعبك يكره الحرية؟!

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/12 الساعة 08:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/27 الساعة 11:31 بتوقيت غرينتش
Angery Egyptian activist shouts at anti-riot policemen who block the way leading to journalists syndicate in downtown Cairo, Egypt, Wednesday, Jan. 26, 2011. A small gathering of Egyptian anti-government activists tried to stage a second day of protests in Cairo Wednesday in defiance of a ban on any gatherings, but police quickly moved in and used force to disperse the group. (AP Photo/Ben Curtis)

في إحدى التظاهرات وسط القاهرة خلال فترة ما بعد الثورة تأخرت عن الموعد قليلاً، وبينما كنت مسرعاً للحاق بها لفت نظري ردود أفعال بعض الحضور من أهالي المنطقة بعد مرور التظاهرة، إذ وقف رجلٌ عجوزٌ ساخطاً يصيح: "الواد ماسك إيد البت وماشيين يقولوا حرية.. حرية!". كانت هذه أول مرة ألحظ فيها كيف يمكن أن يتباين فهمنا واستيعابنا لإحدى القيم السياسية الأساسية، وبعدها صرت منتبهاً كيف يتم بشكل متعمد أو غير متعمد عملية التشويش على قيم الحرية والديمقراطية عن طريق جعلها ترتبط في أذهان الشعب بمعانٍ سلبية متعددة.

الحرية/ الانفلات الأخلاقي

أول ما يتبادر إلى ذهن الناشطين المجتمعيين والسياسيين حين تذكر قيمة الحرية هو المعنى الليبرالي لهذه القيمة من حرية الممارسة السياسية، والانتخابات النزيهة، وحرية الإعلام وتكوين الأحزاب، واستقلالية الجمعيات الأهلية والتمكين للمجتمع المدني، ونحو ذلك.

 

لكن في الذهنية التقليدية المحافظة التي مثّلها هذا العجوز بجدارة، والتي ترى أن الوظيفة الأساسية للسلطة هو الحفاظ على منظومة القيم المجتمعية، يكون أول ما يطرأ على الذهن عند المطالبة بالتقليل من سلطوية الدولة وإطلاق الحريات هو الدعوة للانحلال الأخلاقي والتفلت من المنظومة القيمية المجتمعية، وساعد على ذلك عدة عوامل، منها النزعة السلفية التي كانت مهيمنة على المزاج المصري، والرعونة التي أظهرها سلوك بعض الناشطين، علاوةً على أن نموذج الحريات الشخصية في الدول الليبرالية يعد صادماً للمزاج المصري، أو لشرائح واسعة منه على الأقل، وبالمحصلة تصبح هذه الذهنية تترجم الدعوة للحرية على أنها "قلة أدب وعدم تربية" مبطّنة، وهو الوتر الذي لعبت عليه القوى السلطوية في الإعلام والخطابات السلفية الفجة ببراعة.

الحرية/ الفوضى

القيمة الثانية التي تقدّسها العقلية المحافظة هي النظام، وبالتالي تكون الأحداث الطارئة وفترات عدم الاستقرار هي الكابوس بالنسبة لها، فمفهوم التغيير الذي رفعته القوى الديمقراطية في وجه فشل وفساد النظام المباركي كان شديد الإزعاج لمزاج هذه الطبقات، وبالتالي مشهد الصدامات الدامية مع قوات الأمن أو الحرائق في أقسام الشرطة لم تر فيها هذه القوى تمرداً بطولياً على غياب القانون والتعذيب والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان وكسراً لدولة البطش والقمع، بل رأتها فوضى وتخريباً يجب أن يتم وقفهما مهما كان الثمن، وعمّق من ذلك الشعور الإضراب غير المعلن الذي قامت به الأجهزة الأمنية في مصر بعد الثورة، بل وعمليات التخريب التي قامت بها بعض هذه الأجهزة تحت مسمى "الطرف الثالث"، كل هذا جعل قيمة الحرية ترتبط في الأذهان بالمظاهرات والحرائق والفلتان الأمني وغياب الأمن، وساد خطاب أن الشعب المصري لا تصلح له إلا العصا، وأننا غير مستعدين للديمقراطية، ونحو ذلك من هراء.

الحرية/ الأنانية

المعنى السلبي الثالث الذي ارتبط عمداً أو بغير عمد بقيمة الحرية في المخيلة الشعبية هي الأنانية، وهي تهمة قديمة جديدة يستخدمها أصحاب الرؤى الكلية الجمعانية (أي المؤمنون بأن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد) في الانتقاص من التعريف الليبرالي لهذه القيمة، ويدعمهم فيها قصر النظر والسلوك الأناني واللامسؤولية التي قد تتصف بها النخب السياسية في بعض الأحيان (كما حدث في مصر بعد الثورة)، والتي تسبب عادة في خلافات حادة مستمرة وحالة من "الشلل" وغياب الفاعلية السياسية، وبالتالي يستقبل الوعي الشعبي المطالبة بالحرية على أنها دعوى كاذبة من أجل تحقيق مصالح ذاتية وحزبية ضيقة، والمشكلة التي لا يلتفت إليها هؤلاء أن المتورعين الكاذبين الذين يتحدثون عن إعلاء قيمة الواجب في مقابل قيمة الحرية، ويدّعون أنهم يقمعون الحريات الفردية لصالح المجموع أنه في غياب الديمقراطية لا يمكن بحيادية واستيعابية تحديد ما هي مصلحة المجموع، وأنه حينها قد تصبح مصلحة المجموع تلك شعاراً مسروقاً وتورية كاذبة عن المصلحة الذاتية الضيقة لهؤلاء المستبدين.

الحرية/ المخططات الأجنبية:

المعنى الرابع (وقد لا يكون الأخير) الذي تم استخدامه بفاعلية من قبل القوى المناهضة للديمقراطية في مصر لتشكيك الشعب في الحرية وفي المطالبين بها هو ربط هذه القيمة بمخططات التدخل الأجنبي، وهي أيضاً تهمة قديمة حديثة، إذ يقال إن ألمانيا عرفت نظماً دولاتية سلطوية بل وفاشية، ولم يقم بها نظام ديمقراطي مستقر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ بسبب أن أول اتصالهم بالدعاوى الديمقراطية الليبرالية كانت مع جيوش نابليون الغازية ما عمّق من تشككهم في هذه الدعاوى ورؤيتهم لها على أنها أيديولوجيا مناهضة للقومية الألمانية.

وبالمثل، فإن التاريخ الاستعماري الأوروبي، والمعايير المزدوجة التي تتبعها الحكومات الغربية حتى الآن تجاه قضايا المنطقة، بالإضافة إلى كارثة غزو العراق تحت دعاوى نشر الديمقراطية أكدت في الذهنية الشعبية أن المناداة بالحرية والديمقراطية إنما هي حصان طروادة الذي تستخدمه الدول الغربية "المعادية" لإسقاط الدولة المصرية "الآيلة للسقوط أساساً"، وكأن مطلب الحرية لا يمكن أن ينبع ذاتياً من داخل شعبنا المقهور.

وقد أكدت القوى السلطوية هذه الدعاوى بحقيقة أن الكثير من الناشطين السياسيين تم دعمهم فنياً أو مادياً من قبل منظمات مجتمع مدني أوروبية وأميركية للعمل على نشر الديمقراطية، لكن الذي لم تذكره هذه القوى السلطوية للشعب هو حجم الدعم المادي والفني الذي تتلقاه أجهزتها الأمنية والاستخبارية من تلك الحكومات "المُعادية" من أجل استمرار وتقوية سلطتها واستبدادها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عفان
باحث في دراسات الشرق الأوسط
تحميل المزيد