هل الحل دستور علماني لا ينحاز لأي دين أو مذهب؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/08 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/08 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
A group of diverse teenagers

أزعم أنه لكي نعرف مدى إمكانية تعايش الناس في أي مجتمع بحرية ومسؤولية، يجب معرفة طريقتهم في التدين ودور الدين بينهم، بالتأكيد الدين وطريقة ممارسته ليست هي العامل الوحيد لكنه يعتبر من أكبر العوامل المؤثرة على علاقة الإنسان بالإنسان، وحتى على الشعوب التي يُشاع عنها أنها لا تؤمن بدين معيّن كالشعب الياباني مثلاً، وجد أنهم يتألفون حتى مع الأشخاص المعتنقين لـ"شبه الديانات" كالكونفوشيوسية، فاليابانيون يهتمون جداً بآداب السلوك وينحنون بأدب وإجلال لأي شخص وهو من تأثير الكونفوشية.

لا يمكن أن ننكر أن التدين ليس خادماً للديمقراطية وليس عدوّاً لها في نفس الوقت لكن على ما يبدو أنه في حين بدأت المجتمعات المتقدّمة بالتخلّص من هذه المعضلة لا زالت مجتمعاتنا تتخبط فيها. في عوض الاهتمام بهذه المسألة المصيرية يغرق "المفكرون الإسلاميون" في النقاشات المذهبية التي لا تخدم لا الدولة ولا المجتمع ولا مصالح الناس والتي ليس فيها أي فائدة ترجى منها، سوى حشد الأغبياء والمغرمين بدماء الإنسان.. فإلى الآن لا يزال البعض يتحدّث عن (عدالة السلف) و(من الأحق بالخلافة).. بل وتكرّم بعضهم مشكورين فقاموا بمحاولة محاربة الأصوليات الدينية بأصوليات دينية أخرى، أي محاربة الإرهاب بالإرهاب.

لتقييم أثر التدين على الممارسة الديمقراطية، من الضروري أن نرى كيف "يعيش" الدين من قبل المواطنين العاديين وكيف يتم تنظيمه على المستوى المحلي. لأن أي جماعة دينية قد تفضل أو تعرقل ظهور نظام سياسي ديمقراطي.

وفي هذا المقال ما أردته هو أن أركز ملاحظاتي على أثر التديّن على نظام ديمقراطي يتم فيه حماية الممارسة الحرة للدين – والممارسة الحرة للأديان المتعددة والمتنوعة – ضد التدخل الحكومي، وفي نفس الوقت، حماية غير المؤمنين، بل وحتى أكثر الطوائف الدينية مخالفة للتيار الديني السائد ضد أي محاولة من جانب الحكومة أو من أفراد المجتمع لفرض أو حتى الترويج لأي مجموعة محددة من المعتقدات الدينية على حساب معتقدات أخرى.

لا أريد أن أعرّف الديمقراطية بنفس الكلاسيكية المعروفة، بالعموم الديمقراطية هي التعبير الرسمي الذي أطلق على الحالة السياسية التي سادت أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. وكلمة ديمقراطية تدلّ، مبدئياً، على حكومة الشعب. وقد اكتسبت معاني مختلفة نوعاً ما بحسب العصور، لتتحول في نهاية المطاف إلى غاية السياسة، وهي العمل على أن يستعيد المجتمع البشري التمتع بالخيار الذاتي الحر على المستوى الجماعي، وذلك بأن تكون السياسة مشروعاً للاستقلالية والحرية وبأن يكون المتنافسون تحت سقفها على مسافة سواء بينهم بحيث يصبح الفيصل هو المشروع الذي يقدّمه السياسي.

بقراءة التاريخ، يمكن أن نجد ممارسات الديمقراطية في العديد من التقاليد الدينية ليس فقط في المجتمعات الإسلامية التي يخبرنا التاريخ الإسلامي بأن السلطة عذّبت واضطهدت كل من تجرّأ على مخالفة المذهب الذي تدعو إليه، بل المجتمعات غير الإسلامية أيضاً، فليس هناك أبرز مثال من التيار الهندوسي الذي يرى في المسلمين تهديداً لتديّنه، وأعتقد أنه لولا دستور الهند العلمانية لشهد المسلمون هناك نفس مصير الأقليات المسلمة في ميانمار الذين يتم التنكيل بهم يومياً وسط سكوت تام من المسلمين وغير المسلمين.

حتى في عصر التنوير يمكن أن نجد روابط بين المؤسسة الدينية التي تعبّر عن نمط التديّن السائد في المجتمع والأنظمة المعادية للديمقراطية، والقاسم المشترك هو التنكيل بكل من يملك نظرة مخالفة للدين؛ لأن صاحب هذه النظرة يكون بالضرورة معادياً أيضاً للسلطة السياسية؛ لأن الرؤى الدينية المختلفة داخل المجتمع إن تمتّعت بحرية التعبير فهي غالباً ما تتسبب في نسف تعاليم الطاعة والاحترام للسلطة ويصبح تحالف الكاهن مع السلطة لا معنى له.

لكن أوروبا والغرب بالمجمل تخلّص من هذا التحالف، وسمح بظهور طوائف دينية عديدة داخل المجتمع بالعلمانية، أين تم التفريق بين إرادة الله وإرادة الأفراد، فالدولة هي مجرد أداة في خدمة المجتمع المدني ولا شأن لها بالاختلافات الفكرية فيه، كما أن السلطة السياسية في الغرب تحتاج إلى أن تحظى بالشرعية استناداً إلى قيم قادرة على إعطاء معنى لعملها. لذلك وجب على متقلّدي الحكم في الديمقراطيات المعاصرة السعي إلى التحالف مع سلطات أخلاقية وروحية من كل الأنواع داخل المجتمع المدني. بشرط الحفاظ على حيادية صارمة تجاهها.

نعود لموضوعنا، وأقول على الرغم من هذه الممارسات، لا يجب أن نعمم، يجب أن نضع في الحسبان الزمان والمكان، يمكن اعتبار أي ممارسة دينية كحافز للديمقراطية، وفي نفس الوقت معيقاً لها، الفيلسوف الأميركي ألكسيس دو توكفيل على سبيل المثال، كتب أن الكاثوليك "هي الطبقة الأكثر الجمهورية والأكثر ديمقراطية من أي وقت مضى في الولايات المتحدة". ووفقاً له الكاثوليكية تساوي بين جميع الناس أثرياء وفقراء، باحثين وجهلاء، أي أنها تطبّق على كل إنسان نفس القدر.

بعد أكثر من قرن، جاء عالم الاجتماع سيمور مارتن إلى الاستنتاج المعاكس، بالنسبة إليه، فإن النظام الديمقراطي يعني قبول كل أنواع الأفكار مهما كانت، في حين تدعي الكنيسة الكاثوليكية أن الرأي المخالف هو هرطقة وأن هي وحدها من يمتلك الحقيقة بحيث نكّلت بجميع المخالفين لها ليس فقط في المذهب، بل وفي الدين أيضاً يهودا ومسلمين بسبب هذا الزعم -الذي تتقاسمه جميع الديانات والمذاهب- والذي بسببه أيضاً اشتعلت نيران الصراع البروتستانتي الكاثوليكي.. لكن ما أعتقد أنه يحسب لصالح الكاثوليكية هو تجرّؤها على التخلّص من أهم سلاح سيطرت به على الأوروبي يوماً ما وهو التخويف من الآخرة، بحيث في الآونة الأخيرة طوّرت الكنيسة الكاثوليكية فكراً يسمّى (اللاهوت الليبرالي) أو لاهوت التحرير. وقد أثمر مجتمعات مسيحية تقبل بالتعددية وبالانفتاح بعد الاحتكاك بالديمقراطية.

 

وأعتقد أن الفاصل بين مجتمعاتنا والمجتمعات المتقدمة هو التخلّص من معضلة (التدين يمكن أن يكون داعماً للديمقراطية أو محرّضاً على قمعها) بأن يحدث اندماج بين التدين والديمقراطية، فالمواطن المواطن الغربي أصبح يربط إخلاصه لإيمانه بصلاحه كمواطن.. وهذا هو الفرق بين المواطن الغربي والمواطن الشرقي الذي يربط المواطن الصالح بالإخلاص في الإيمان فقط.

وهذا لم يأتِ من فراغ، بل له جذوره التاريخية، فطوال التاريخ الإسلامي كان هناك تفوّق للسياسة على الدين، بإخضاع الطرف الثاني لصالح الطرف الأول، وأصبح كمال الإيمان عند المسلم يشترط أولاً إنشاء إمبراطورية عالمية تسيطر على العالم كلّه، بمعنى أن الدين لدى المسلم يحمل طابعاً توسّعياً، ما أفرز تديّناً معادياً لقيم الديمقراطية وبهذا المنطق، فإن أي دولة لا تقوم على التحالف بين الدين والسياسة هي باطلة وغير شرعية عنده. وهذا هو العائق الأول أمام العلمنة، فالغربي المسألة عنده محلولة ومفروغ منها فالسياسي عنده مستقلّ عن الديني، بينما الشرقي يرى أن الديني يتشكّل بفضل السياسي نفسه.

شاعت الكثير من المقولات كـ(الدين هو جزء من الهوية الوطنية) وهذا صحيح، لكن ما كان ذلك ليحدث لولا الديمقراطية نفسها، فكل الطوائف الدينية التي تختلف عن بعضها البعض في طريقة التدين هدفها الكبير هو الانصهار الاجتماعي وتأكيد هويتها، والتعبير عنها وترغب في أن يتم الاعتراف بها بصفتها عنصراً لا جدال فيه من عناصر هوية المجتمع، وهذا التعريف للدين هو تعريف دنيوي صرف يميل إلى وضع الديانات في مصافّ الثقافات كسائر السلوكيات الأخرى التي تعتبر مكوّنة لثقافة المجتمع كالفنون وطريقة اللباس وسمة المجتمع الخاصة.. إلخ.

وهذا ما كان ليحدث لولا الديمقراطية، فالفكر غير الديمقراطي يجبر الآخر المخالف لفكر المجتمع السائد على التخلّي على فكره وتديّنه بالتحديد لكي ينخرط في المجال العام، وهذا ما شاع بالضبط في الاتحاد السوفييتي.

ما يضمن الحفاظ على الديمقراطية في أي مجتمع، دستور علماني يحمي الممارسة الدينية من تدخل الحكومة، لا ينحاز لأي دين أو مذهب ويحظر أي عمل حكومي ينحاز لأحد الطرفين والأهم من ذلك أن يضع خطاً بين الدين والحكومة، حتى لو كانت غالبية ذلك المجتمع متجانسة دينياً طائفياً، المؤسسة الدينية بشكل طبيعي، لها مبادئ وأفكار وتعاليم، من طبيعتها أن تعلن ما ترى أنها حقيقة لكن من دون احتكار وتعنيف للآخر.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مولود مدي
طالب جامعي مهتم بالتاريخ والفلسفة
طالب جامعي ومدون جزائري في عدة مواقع إلكترونية، مهتم بالتاريخ والفلسفة، ولا أنتمي لأي حزب سياسي في الجزائر.
تحميل المزيد