هكذا جعلت مني الحرب رجلاً لو جاءه الموت لاستقبله بحفاوة!

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/07 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/07 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش

لماذا على المرء أن يعيش حياة لا يريدها؟

لست من حملة الشهادات الأكاديمية، لكني على الأقل لست أمّياً.

أنهيت تعليمي الثانوي منذ مدة، ثم كان عليّ التوقف بعدها من أجل العمل، لكن الحياة أكثر صعوبة في الفترة الأخيرة.

أجبرتني الحرب على مغادرة قريتي البسيطة.

قريتي على قساوتها وقلة الخدمات فيها وكثرة الراحلين منها، كانت تحتضننا بحب..  تتحمل جوعنا من خيرات أرضها، ولا أحد فيها يلوم بساطة ما نلبس أو نصنع.

لقد هبت رياح الحرب عليها لأن جبالها الصماء تطل على المدينة وتحتضنها.

ولذلك غادرناها مكرهين، ونحن الذين لم نكن يوماً طرفاً في سياسة أو ننخرط في معركة إلا معركة الحياة، لم نكن نعرف اختلافات بيننا أو تمييزاً.

ها نحن نضطر للانصهار في مجتمع المدينة الذي لا نعرف فيه أحداً وليس لنا فيه مكان.

هنا في كل بيت وجع.. ذلك ظاهر من علامات الرصاص على جدران المنازل وقصف الطائرات.

لكن يبدو أن الناس هنا أكثر قدرة على تحمّل الصدمة من سكان القرية، فهي مجتمع بسيط، تضرُّر أحدهم فيه يعني أن على الجميع التأوُّه من الألم.

وتوقف مستودع للمواد الغذائية يعني معاناة الجميع من صعوبة الحصول على احتياجاتهم.

وقصف يطال مبنى هنا يعني أن المركز الطبي الوحيد عليه التوقف حالاً لأنه لا يستطيع استقبال الجرحى.

يا إلهي ماذا فعلنا ليُصبَّ علينا كل هذا الوجع.

هذه المدينة بسيطة أنيقة وجميلة.. أو هكذا كانت قبل أن تقع تحت سيطرة بعض أطراف الصراع.. المدن الأخرى التي تقع في يد الطرف الآخرلا يختلف واقعها كثيراً.. لطالما سمعنا في الأخبار عن معاناتهم التي لا تنتهي.

هي المشاكل ذاتها.. الماء والغذاء ونقص في الدواء وتفشٍّ للأمراض وارتفاع الأسعار.. في الواقع لا يمكن حصر تلك القلاقل في هذه القلائل… لكن يمكن القول إنها كل ما يمكن للحرب أن تجلبه معها.

لقد وقعنا في شراكها دونما ذنب منا.. إلا أننا لم نكفَّ أيدي أولئك الذين كانوا ينادون يوماً باسم العنصرية والمذهبية والطائفية.. في الواقع لم يبدُ لنا أن هناك مفراً من الوقوع منها.

كنا جميعاً نسعى لها بشكل أو بآخر.. أقل ذلك يكمن في الصمت المطبق والقبول بأي واقع علينا قد حضر.

المصيبة لا تقف عند هذا الحد.. المصيبة في التكيف والاعتياد.

أن تقبل الغذاء بأي قيمة كانت.. أن تقبل بضوء شمعة أو فانوس.. أن تجد في القليل من الماء الكثير.. والأدهى من ذلك أن تجد أن موت رفيقك والصلاة عليه شيء عادي جداً.. تماماً كقن الدجاج حينما تمتد إليه يد الجزار وتتناول الواحدة تلو الأخرى.. كل ذلك مقابل أن تشعر ببعض من الأمان!

وهذا ما حصل.. وأصبحنا قن الدجاج هذا وربما كان حالنا أكثر سوءاً، نحن لا نحصل على الكثير من الوقت كما هم والموت هنا يحصدنا بالجملة.

الجميع في صمت مطبق.. فمن يفتح فاه فالموت مصيره.. حتى الصامتون يموتون أيضاً.. متأخرين قليلاً فقط.

في ظهيرة أحد الأيام كنت عائداً لمنزلي وبيدي غنيمة، شيء من الخضار وشرائح صغيرة من الخبز، تلك هي غنيمتي التي ستضمن نجاتي إلى الغد الذي يليه.. ربما غداً أعثر على ما أفتقده.

أنا أفتقد العمل.. ومع هذا فأنال من التعب ما لا يناله عامل كان.

أطلقت على نفسي صفة الباحث، فأنا أبحث عن عمل منذ دخولي هنا.. وذلك ليس بالشيء اليسير..

تعتقدون أنني لم أفكّر في السفر والهجرة؟

بلى.. لكن ذلك أصعب من بقائي على قيد الحياة بحد ذاته.

تعرفون لماذا؟

لا أحد في الجوار يريدنا، نحن شر محض، أشبه بالمخدرات، أو هكذا نبدو في أعينهم، الكل يخاف منا.. لذا فهم يشددون الشروط عندما نرغب في الدخول.. حتى بدا لنا أن دخول الجنة أسهل بكثير.

لا يقتصر هذا في الجوار، بل كل العالم تقريباً، الأمر أشبه بالمؤامرة.. رغم أنني لا أومن بالمؤامرات.

أعذر الجميع، فوطني بحد ذاته لا يريدني.. ولم يضع لي احتراماً عند أحد، مع أني شخص جيد لكن ذلك لن يساعدني في شيء.

فكيف نريد ذلك من الغير؟

أيها العالم أعذرك.. لا أستطيع أن أدعي أن وجودي كان سيغيركم للأفضل، وأن موروثنا التاريخي العظيم سيجعلكم أكثر عظمة.. لا أستطيع أن أقول إن لدي وفي جعبتي ما يبهر الجميع.. وإن قدرتي على التعلم فائقة، وإن إمكانياتي في التحمل والوقوف في العمل لساعات طويلة غير محدودة، فأنتم لا ترون منا إلا النقيض.

نحن أكثر ضعفاً، أكثر وجعاً، أكثر جوعاً.. لكن سنغدو ذات يوم أفضل. واثق من ذلك فقصص الحرب تحكي الكثير، وتحمل تحت طياتها الكفاح والنجاح والحب والأمل. دخان الحرب يعلو كل ذلك ويغطيه.. وستأتي يوماً رياح محمَّلة بالمطر تليها شمس ساطعة تكشف عنا تلك الغمة.

مضى عامان منذ ذلك الحين الذي جئت فيه نازحاً إلى هنا.

أنا الآن أقف أمام المرآة متطلعاً في قسمات وجهي وقد امتلأ بالتجاعيد الصغيرة مع عيون غائرة مرهقة غلبها السهر وأسفلهما شفتان متشققتان.

وجهي الأسمر المتجعد أصبحت تكسوه لحية رمادية ويعتليه الصلع.

جسدي أصبح أكثر نحولاً منذ أن جئت إلى هنا، لولا بطن صغير متدلٍّ أحمله كأنما فيه أوجاعي التي تنزلق من صدري.

لست في الستين من عمري ولا الخمسين.. بل الثلاثين.

ما تقدم مختصر لحكاية سنين من المعاناة والألم والكفاح.

مختصر يروي أيام دراسة مفرغةً من المضمون و(أعمالاً) كانت بالكاد تضمن قوتاً يومياً، وسنيناً طويلة من الانتظار..

انتظار للأمان الذي افتقدته في هذه الحرب المجنونة التي تأبى التوقف.  

انتظار ليرحل الشعور بالوحدة والقهر والجوع والوجع إلى الأبد.  

انتظار لعطلة طويلة أو استراحة تليق بكفاحي في الحياة.

انتظار لأتقاعد من كل ذلك.. وأنا الذي لم أعمل بعد.

وانتظار لعشرات الأحلام.

حلمت كثيراً بالهجرة والرحيل علَّه ينقذ ما تبقى من كياني أو يحمي حقوقاً كنت أعدها من حقي.

للحظة وأمام المرآة توقفت عن الانتظار لكل ذلك.

هذه المرة لا أنتظر شيئاً..

لست زاهداً في الحياة، ولكن لسبب ما أجد أن لو داهمني الموت على هيئة رجل فسأرحب به جيداً وأستقبله كالفاتحين.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مختار العريفي
صحفي وكاتب
تحميل المزيد