السياسة كمهنة، من التعويض إلى التقاعد.. ألمانيا نموذجاً

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/07 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/07 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
Corruption concept, man putting money in jacket pocket

   

يأتي هذا المقال في إطار النقاش الدائر اليوم في المغرب حول معاشات وتعويضات البرلمانيين والوزراء، ومساهمة في هذا النقاش يهدف هذا المقال الى إعطاء نظرة مقارنة للتطور التاريخي للتعويضات المرتبطة بممارسة مهام التمثيلية السياسية، ولتقريب هذا الأمر سنأخذ كمثال النموذج الألماني لنري كيف تمت معالجة هذه الإشكالية داخل سياق تطور "مهنة السياسة" ابتداءً من نهاية القرن التاسع عشر.

 

 

قبل معالجة قضية تعويضات النواب والوزراء ينبغي الحديث أولاً عن التطور التاريخي لمهنة السياسة وهي مسألة للأسف لم تمنح أي اهتمام من قبل الباحثين المهتمين بالنخب السياسية.

ويعتبر ماكس فيبر من أشهر مَنْ عالج موضوع السياسة كمهنة في إحدى محاضراته التي تحمل نفس العنوان من خلال تمييزه بين السياسي الذي يعيش السياسة والسياسي الذي يعيش من السياسة. والصنف الثاني حسب تعريف فيبر هو من يسعى خلال ممارسته للسياسة إلى جعل هذه الأخيرة مصدراً مستمراً ومستقراً للدخل المادي. في هذا الإطار تجب الإشارة إلى أن ظهور السياسة كمهنة جاء كنتيجة للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية خلال القرن التاسع عشر، وهي الفترة المرتبطة بنشأة الأحزاب السياسية وظهور ما سماه فيبر الموظف الحزبي وارتباط هذا الأخير بمراكز ممارسة السلطة السياسية مع بداية تجربة الدولة الديمقراطية في المجتمعات الغربية (فيبر 1919).

 

 

أما فيما يخصّ التطور الذي شهدته تعويضات ممتهني السياسة فقد تميز الأمر في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين وتحديداً من 1871 إلى 1906 بغياب أي تعويضات للنواب داخل الرايشستاك، الأمر الذي كان منصوصاً عليه في الفصل 32 من الدستور الألماني خلال عهد بيسمارك الذي نص على أنه لا يحق لأعضاء البرلمان الحصول على أي تعويض، هذا الفصل أضيف تحت إصرار من بيسمارك الذي كان يرى أن التمثيلية السياسية يجب أن تحتفظ على وجاهتها الاجتماعية على اعتبار أن الفئات الميسورة فقط كانت تستطيع أن تُمارس العمل السياسي في غياب أي تعويض لتوفرها على الدخل المادي خارج مهنة السياسة.

رغم ما سبق ذكره فقد كانت بعض الأحزاب تمنح تعويضاً لبرلمنييها (40٪‏ تقريبا منهم) خير مثال هو الحزب الاجتماعي الديمقراطي، وهذه المبادرة سمحت لفئات أخرى من الطبقات غير الميسورة ولوج العمل البرلماني، وهذا الأمر كان من العوامل المهمة التي ساعدت على مأسسة العمل السياسي وهو ما سمح لماكس فيبر في تحليله "للسياسة كمهنة" القول إن هذا النموذج الحزبي لمهنة العمل السياسي ساهم في تراجع السياسي الهاوي إلى الخلف.

 

 

فقط في سنة 1906 أقر الدستور الأماني أخيراً بمنح تعويض عن التمثيلية السياسية للنواب، ورغم ذلك فلم يكن مبلغ التعويض يرقى إلى مستوى المهام المرتبطة بهذه التمثيلية. إلى هنا يمكن تجاوز الحديث عن الفترة الممتدة من بداية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب الظروف المرتبطة بصعود الفاشية وتأثير ذلك على التحليل المحايد لتطور مهنة السياسة خلال هذه الفترة.

وقد أقر القانون الأساسي لألمانيا ما بعد الحرب هذه التعويضات في فصله الثامن والأربعين، حيث نص على أن لأعضاء البوندستاغ الحق في تعويض مناسب يضمن استقلاليتهم. قرار المحكمة الدستورية بتاريخ 5.11.1975 فصل في النقطة السابقة حيث اعتبرت أن مهمة النائب البرلماني أصبحت مهنة كاملة بحد ذاتها وأن مبلغ التعويض يجب أن يتناسب مع أهمية التمثيل والمسؤوليات المرتبطة بذلك.

 

 

سأتجاوز الحديث عن المبلغ الذي يتقاضاه النواب والوزراء الألمان وأمر مباشرة إلى النقطة التي تعنينا ألا وهي كيف عالج المشرع الألماني التعويضات المتعلقة بنهاية فترة التواجد في البرلمان أو الحكومة. النموذج الألماني أقر ما سماه التعويض عن الفترة الانتقالية وهي التعويضات التي تصرف لأعضاء الحكومة أو البرلمان عند انتهاء مدة تواجدهم داخل هاتين المؤسستين. بالنسبة للوزراء تصرف هذه التعويضات لمدة لا تقل عن 6 أشهر على ألا تتجاوز السنتين، الثلاث الأشهر الأولى يحصل فيها على تعويض يساوي الأجرة التي كان يتلقاها كوزير(ة). نفس الشيء يخص كذلك أعضاء البرلمان على ألا تتجاوز فترة صرف هذه التعويضات 18 شهراً. أما التقاعد فيصرف فقط عند بلوغ السن القانونية المحدد للتقاعد ألا و هي سن الثلاثة والستين وهو ما يطبق على جميع المواطنين. أما الغاية من هذه التعويضات عن الفترة الانتقالية فهي تسهيل الطريق أمام الأعضاء السابقين للبرلمان والحكومة من أجل ولوج عالم الشغل من جديد بعد فترة انقطاعهم عنه.

 

 

ختاماً يمكن القول إن سعي البرلمانيين في المغرب إلى استدامة صرف التقاعد مرتبط بمفهوم الطبقة السياسية وكيف تنظر هذه الأخيرة إلى كينونتها، حيث ترى نفسها باعتبارها مجموعة مترابطة تشتغل داخل نسق مغلق وتحاول استغلال المجال المؤسساتي الذي تتحرك فيه من أجل تحسين الظروف والامتيازات المرتبطة بممارسة مهنة السياسة من تعويضات والرّقي الاجتماعي وكذلك سلطة التأثير داخل المجتمع، هذا من جهة.

أما جهة أخرى، فالنموذج المغربي في صرف التقاعد للوزراء والنواب مباشرة بعد انتهاء خدمتهم داخل المؤسستين هو نموذج مغاير تماماً للنموذج الألماني الذي عرضناه أعلاه ولا يمكن تفسير هذا "التقاعد" إلا من خلال الرجوع إلى طبيعة النظام السياسي الذي تشتغل فيه ورغبة هذا النظام في شراء ولاءات جزء من الطبقة السياسية. فالنظام السلطوي في جوهره يواجه أخطاراً عدة قد تعصف بديمومته، وفي مقدمة هذه المخاطر توجد النخب السياسية، لذلك يحاول هذا النظام بطريقة أو بأخرى استمالة أو شراء هذه النخب عبر وسائل ريعية. فالنموذج المغربي يدخل إذن في هذه التعددية لنماذج الأنظمة السلطوية وهو نموذج ليس فريداً من نوعه، إذ إن لكل نظام غير ديمقراطي طرقه في إرشاء النخب السياسية وذلك لإطالة أمد حياة الحكم السلطوي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عزيز فرحات
كاتب مغربي
تحميل المزيد