لم تعد شبكة الإنترنت تلك الشبكة البدائية التي تربط مجموعة من العلماء في عدة جامعات مختلفة بولاية كاليفورنيا الأميركية كما كانت في بادئ الأمر وحسب؛ بل أصبحت بعد مرور 4 عقود على انطلاقتها الشبكة الأوسع على الإطلاق في تاريخ البشرية؛ حيث باتت تهيمن على المجالات الحيوية كافة التي تهم الإنسان، ويُنظر إليها على أنها الأداة المثلى لتحقيق الازدهار الاقتصادي والاستقرار والتقدم؛ ولذلك بات السؤال حول من يحكم "الإنترنت"؟ مطروحاً بقوة على الأجندة الدولية.
يمكن النظر إلى هذه المسألة -أي مسألة من الذي يحكم أو يتحكم في الإنترنت- على مستويين اثنين: يتعلق المستوى الأول بالعلاقة البينية للدول بعضها مع بعض داخل النظام الدولي؛ حيث توجد وجهتا نظر متضاربتان؛ الأولى تتمحور حول المبادئ الليبرالية المتعلقة بالمحافظة على خاصية الانفتاح واللامركزية التي تتصف بهما شبكة الإنترنت؛ حيث يجري التنظير للإنترنت -حسب وجهة النظر هذه- على أنها الأداة التي من شأنها دعم التوجهات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعزيز فرص التقدم والازدهار الاقتصادي.
وتعتبر الولايات المتحدة رائدة هذا التوجه، تدعمها إلى حد كبير -مع قليل من الاختلافات- الدول الأوروبية.
أما وجهة النظر الثانية، فتتعلق بالدول التي تسعى إلى تحدي وجهة النظر الليبرالية بالدعوة إلى اتفاقية دولية متعددة الأطراف، وذلك من أجل كسر احتكار وهيمنة الولايات المتحدة على مصادر التحكم والسيطرة التابعة لشبكة الإنترنت.
تعتبر الصين وروسيا وبعض الدول الكبرى في العالم الثالث كالبرازيل وإيران من أعلى الأصوات العالمية التي تتبنى وجهة النظر هذه.
أما المسألة الثانية، فتتعلق بمدى سيطرة الدولة على الإنترنت ضمن حدودها السيادية؛ حيث يبرز إلى الواجهة هنا ذلك التضارب بين العالم الشبكي الآخذ في التنامي كظاهرة من ظواهر العولمة، وسيادة الدولة التي يجادل الكثير بأنها آخذة في التآكل؛ وهو ما دفع بعض المختصين للحديث عن بروز الإرهاصات الأولى لحقبة جديدة من النظام الدولي، يتلاشى فيها النظام السابق القائم على مبدأ الدولة-الأمة كما هو متعارف عليه منذ اتفاقية وستفاليا في القرن السابع عشر؛ ليحل محله نظام يتمتع باللامركزية بشكل أكبر.
فشبكة الإنترنت بوضعها الحالي تتحدى بشكل لافت للأنظار مبدأ المركزية الذي تتصف به الدول، فقد باتت الدولة -على سبيل المثال- عاجزة عن فرض سيطرتها على كثير من مظاهر السيادة، كالتحكم في تدفق المعلومات، والتعاملات التجارية، والتواصل بين الشعوب عبر الحدود. فالشركات العملاقة -على سبيل المثال- أصبحت قادرة على توجيه اقتصادات الدول من خارج حدودها.
كما أن بعض الدول أصبحت قادرة على توجيه الرأي العام في دول أخرى بما يخدم مصالحها من خلال بعض منصات الفضاء الإلكتروني، وربما تعد الانتخابات الأميركية الأخيرة وما رافقها من تضليل للرأي العام الأميركي من خلال الآلاف من الحسابات الوهمية والأخبار المزيفة على شبكة "الفيسبوك" و"تويتر" التي قام بها وكلاء تابعون لروسيا أوضح مثال على ذلك.
على أي حال، يبقى الحديث عن تهاوي أو تلاشي سيطرة الدولة محل جدل كبير، فما زالت الحكومات قادرة على فرض القيود الشديدة على شبكة الإنترنت، سواء من خلال منعها بعض المواقع المناوئة لها، أو من خلال برامج التجسس والمراقبة التي تحد من خصوصية المواطنين، أو حتى من خلال التهديد بفرض عقوبات من نوع ما على شبكات تزويد المعلومات في الفضاء الإلكتروني.
وفي هذا الصدد يبرز النزاع الذي جرى بين الصين وشركة ياهوو كمثال على استمرار قدرات الدولة على فرض سيادتها على شؤونها الداخلية.
ففي عام 2005، نفذت شركة ياهوو أمراً من السلطات الصينية بالإفصاح عن هوية مواطن صيني استعان بخدمة ياهوو لإرسال البريد الإلكتروني في إرسال رسالة إلكترونية عن الذكرى السنوية لمذبحة ساحة تيانانمن إلى إحدى المنظمات بالولايات المتحدة؛ الأمر الذي أسفر سريعاً عن القبض على صحافي يدعى شاي تاو واعتقاله.
إن هذه القصة تروي ببساطة -على رأي البعض- كيف تحولت الإنترنت من "تكنولوجيا لا تخضع لقوانين الدول إلى أداة تسهل تطبيق تلك القوانين".
يعود بنا هذا المثال لتأكيد فرضية في غاية الأهمية تتعلق بالأسطورة التي تتحدث عن لا مركزية شبكة الإنترنت، وأن الفضاء الإلكتروني غير خاضع -من حيث المبدأ- للسيطرة.
ترتكز مثل هذه المفاهيم المغلوطة غالباً على شيء من الصواب، ولكن على كثير من الوهم أيضاً.
فشبكة الإنترنت من حيث الوصول والاستخدام تتمتع بخاصية الانفتاحية واللامركزية، ولكن من ناحية السيطرة والتحكم فهي بالتأكيد مركزية إلى حد يثير الدهشة، وهذا يعني أن هنالك مصدراً معيناً يفرض قوانين صارمة فيما يخص بنية شبكة الإنترنت وطبيعة العمليات التي تجري فيها.
فكما في المثال السابق، تستطيع الدولة أن تفرض سيطرة من نوع ما على شبكة الإنترنت، ومنع الوصول إلى بعض المواقع، وتحديد نطاق عمل الشركات العملاقة العاملة في تكنولوجيا المعلومات.
ولكن الأكثر إثارة فيما يتعلق بموضوع التحكم والسيطرة هو قدرة دولة معينة تحديداً على منع وصول الإنترنت بشكل كامل إلى دولة أخرى أو إلى إقليم بأكمله، وهذه الدولة هنا هي الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر المتحكم الفعلي في مجمل الفضاء الإلكتروني.
يمكن فهم السيطرة -وربما أيضاً الهيمنة- الأميركية على شبكة الإنترنت بالعودة إلى عاملين: العامل التاريخي الذي يتعلق أساساً بموضوع الأسبقية؛ حيث إن شبكة الإنترنت وليدة الأراضي الأميركية، والعامل التقني الذي يتعلق بالبنية التحتية للفضاء الإلكتروني، والبروتوكولات الرقمية التي وضعها علماء التكنولوجيا الأميركيون الذين كانوا يعملون ضمن طاقم وكالة مشاريع البحوث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية في بداية ستينيات القرن العشرين من أمثال جون بوستل "Jon Postel".
بشكل مختصر، يمكن الحديث عن 3 مبادئ من الناحية التقنية تأسست عليها شبكة الإنترنت، وما زالت تخضع لها حتى وقتنا الراهن، وهي: أولاً، نظام أسماء النطاقات (Domain Name System) وهو النظام الذي يقوم بترجمة اسم النطاق من حرف إلى رمز؛ ليتعرف عليه جهاز الحاسوب.
ثانياً، بروتوكول الإنترنت (Internet Protocol) وبروتوكول التحكم في نقل البيانات (Transmission Control Protocol) اللذان يعرفان بالاختصار TCP/IP ويعتبران العصب المحرك للإنترنت، ويمنحان الحواسيب القدرة على التواصل مع شبكة الإنترنت.
ثالثاً: أنظمة الخوادم الرئيسية (Root Servers) ويوجد منها 13 خادماً؛ تتحكم فيها بعض المؤسسات الخاصة والحكومية، مثل الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا)، المؤسسة الهولندية غير الربحية، بعض الجامعات، والجيش الأميركي وبعض الشركات الخاصة. وتوجد 10 خوادم عملاقة من أصل 13 بالولايات المتحدة، في حين يوجد واحد في كل من أمستردام واستكهولم وطوكيو.
على مدى 3 عقود كانت هذه المبادئ تخضع للرقابة والتحكم من قبل مجموعة من علماء الحاسوب في الولايات المتحدة، على رأسهم جون بوستل.
ومن المثير للسخرية أن بوستل كان يتحكم ببعض القرارات التقنية كتلك التي تتعلق بنطاق رمز الدولة، أي الرمز الوطني للدولة الذي يلحق آخر العنوان الإلكتروني من قبيل "UK" للمملكة المتحدة.
في الوقت الذي كان يجب فيه أن تمنح هذه الميزة لهيئة حكومية، وليس لمجرد فرد واحد.
مع تزايد أهمية الإنترنت وانتشارها استطاعت الحكومة الأميركية التوصل إلى اتفاق بين عدة هيئات خاصة والحكومة الفيدرالية لإنشاء هيئة تقوم بالإشراف على شبكة الإنترنت سميت بهيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المتخصصة – هيئة أيكان (Internet Corporation For Assigned Names and Numbers – ICANN). وبالرغم من أن الهيئة حافظت على طابعها المدني والأهلي منذ نشأتها؛ حيث لم تخضع بشكل مباشر للسيطرة الحكومية أو العسكرية، إلا أنها كانت خاضعة من تحت الستار للنفوذ الأميركي؛ حيث رفضت الولايات المتحدة التنازل عن هيمنتها على هذه الهيئة، بالرغم من التوصية الصادرة عن لجنة مختصة شكلتها الأمم المتحدة في عهد كوفي عنان، والتي دعت إلى ضرورة انتقال صلاحيات هيئة آيكان إلى الولاية المباشرة للأمم المتحدة.
ومن باب التصعيد اعتبرت واشنطن أن المحافظة على سيطرتها على الإنترنت لأجل غير مسمى سوف يتم التعامل معه أميركياً وفق مبدأ مونرو لهذا العصر؛ بمعنى أن أي تحد لشكل وبنية نظام الإنترنت في وضعها الحالي يعتبر تحدياً على واحدة من المصالح الحيوية الأميركية.
في الحقيقة يتشارك جميع اللاعبين في النظام الدولي، سواء أكانوا دولاً أو منظمات دولية أو شركات عابرة للحدود، أو حتى أفراداً، بضرورة الحفاظ على شبكة الإنترنت آمنة ومستقرة، ولكن الخلاف يكمن في القوانين والبروتوكولات التي يجب أن تحكم هذه الأداة الحيوية، فالدول المؤثرة بالنظام الدولي كالصين وروسيا تتذمر من هيمنة واشنطن عليها، وتدعو إلى ضرورة عقد اتفاقية متعدد الأطراف تضمن حقوق الجميع اللاعبين بشكل متساوٍ.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت الأمم المتحدة بعقد القمة العالمية لمجتمع المعلومات على دورتين؛ في جنيف عام 2003 وفي تونس عام 2005.
ورغم الأهمية التي تشكلها هذه المنصات الدولية في تلاقح الأفكار حول آلية عمل شبكة الإنترنت وإدارتها، إلا أنها لم تتمخض عن نتيجة حقيقية على شكل اتفاقية ملزمة للجميع حتى الساعة، وهذا يعني احتفاظ الولايات المتحدة باليد الطولى في السيطرة على الشبكة العالمية.
ففي عالم تسوده التكنولوجيا الرقمية لم تعد الهيمنة مقتصرة على امتلاك أدوات القوة الصلبة وحسب، بل تعداه ليشمل السيطرة على آليات إنتاج البيانات وتدفقها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.