صحيح أن طبقة الثيُقراطيا، وحكم العسكر، والطبقات التقليدية الأخرى قد أضرت بحضارتنا وثقافتنا أكثر من نفعها. لكن، لا يعطي ذلك لدعاة الحداثة العرب الحق أن في ننقل الثقافة الغربية إلى الوطن العربي بكل حذافيرها، من أجل الحصول على الحرية وما شابه ذلك.
الشيء المؤلم أن بعض الحداثيين العرب يؤمنوا بوعي أو دون وعي بأن الثقافة الغربية قيم عالمية وينبغي تطبيقها على الشعوب العربية، وقد استخدم عبدالوهاب المسيري مصطلحاً سماه "فقه التحيز" لتعريف هؤلاء الذين يتحيزون للثقافة الغربية.
هل يعلم الحداثيون العرب أننا في عصر شكك الحداثيون أيضاً في شمولية الحضارة الغربية وقدرتها على تحقيق النهاية المرجوة، والأخذ بالبشرية إلى بر الأمان. كما يؤكد محمد خاتمي: "إننا في مواجهة شأنين بشريّين أحداهما متأصل في أعماق الروح والمجتمع، والآخر ورد من الخارج ونفذ إلى حياتنا؛ إنهما التراث والحضارة الحديثة. لكن ينبغي أن ننظر إلى هذين الشأنين البشريين على أنهما شأن بشري وليسا حقيقة مطلقة، كما ابُتلي بذلك كثير من التقليديين المتحجرين والمتظاهرين بالحداثة السطحية".
يؤكد عبدالوهاب المسيري أن "أهم خصائص الحداثة الغربية تتلخص في أن المادة هي أساس الفكر ومصدر المعنى والقيمة، وفي أن التكنولوجيا العلمية هي التي تمثل معيار القيمة وتعمل على السيطرة على الطبيعة. ومن خلال هذه الحداثة الغربية يتم النظر إلى الغرب على أنه مركز الكون ولا معنى للإنسانية من دونه. من هنا يرى المسيري أن الحداثة الغربية تمثل منظومة إمبريالية داروينية تحكمها العقلانية المادية في إطار منظومة ثُنائية الإنسان والطبيعة، حيث يكون الإنسان المتأله، أي الذي يجعل نفسه مركز الكون والطبيعة".
وبناءً على تعريف المسيري، تعتبر الحداثة المستوردة أخطر على المجتمع العربي من كل المشاريع الفكرية والأيديولوجية الأخرى. تعني الحداثة بمعناها الحقيقي وليس السطحي محاربة الثقافة العربية، ومحاربة الآداب الإسلامية التي نستمدها من ديننا الحنيف، والعادات والتقاليد التي ورثناها عن الأجداد ومحاولة التخلص منها واستبدالها بالثقافة الوافدة. هل يعرف دعاة الحداثة في الوطن العربي أن الحداثة الغربية تنظر إلى الإنسان الملتزم دينياً والمحافظ على عاداته وتقاليده على أنه يعيش حالة استلاب، ولا حل للإنسان إلا بفك ارتباطه عن دينه وتقاليده، ومنحه الحرية المطلقة، فهو محور الكون وأساسه.
وهكذا يتضح أن الحداثة ضد الدين وكل العادات والتقاليد. ولكي، نؤكد صحة هذه الفكرة، سنعطي تعريفاً لأحد منظري الحداثة، حيث يؤكد جان بودربار أن الحداثة ليست "مفهوماً سوسيولوجياً، ولا سياسياً، ولا تاريخياً، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه والتقليدية".
لا نجادل مطلقاً، أننا بحاجة للتغيير ولنقد تراثنا القديم ومحاولة بناء حضارة جديدة مستمدة من ماضينا ومستندة إلى حاضرنا. يقول هيغل: "إن زمننا هو زمن ولادة وزمن انتقال الى حقبة جديدة. وإن العالم الجديد ينفتح على المستقبل ويولد حقبة تاريخية جديدة تستمر في كل لحظة من لحظات الحاضر الذي يولد شيئاً جديداً".
نحن بحاجة لفهم هذه القاعدة، بل إن شعوبنا العربية اليوم بحاجة ماسة إلى تغيير حقيقي في نمط حياتها، وبحاجة إلى رؤية حضارية جديدة مبنية على أسس سليمة، وليس على أفكار مستوردة لا تمت إلى واقعها بصلة؟ فالعادات والتقاليد ليست ديناً سماوياً ثابتاً حتى تبقى ثابتة، ولا ينبغي تغيير البعض منها بما يتواءم مع متطلبات العصر، بل هي من صنع الإنسان، ولذلك قابلة للتعديل والتغيير، شرط أن لا يمسّ ذلك بهوية الشعوب وسلخها من ثقافتها ودينها، وينبغي أن يكون التغيير من الداخل وليس استيراد ثقافة الغير التي لا تتناسب لا مع شعوبنا ولا مع ثقافتنا.
لسنا من دعاة التعصب، ولسنا مع تكرار العادات التقليدية السيئة، بل نحن مع الحفاظ على التقاليد القديمة ومع تطويرها وتحديثها بحسب الزمان والمكان. نحن مع الحداثة بشرط أن تكون مبنية على قيم إنسانية نبيلة نابعة من ثقافتنا وحضارتنا وليس من ثقافة وقيم الرجل الغربي.
هناك من يعتقد من أدعياء الحداثة في المجتمعات العربية أن العادات والتقاليد تُعتبر حجر عثرة أمام تحقيق التقدم في الوطن العربي. يسعى تيار الحداثة بعلم أو بغير علم لطمس هوية المجتمعات العربية وتراثها القديم، من أجل تمهيد الطريق لاستقبال الضيف القادم (الحداثة الغربية) بحسب توصيف الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في كتابه " الإسلام والعالم".
لكن، على دعاة الحداثة في الوطن العربي أن يفهموا أن الحضارات الأميركية، والأوروبية، والشرقية الأخرى ليست مقدسة، بل إنها موضوع نسبي من صنع الإنسان. ولذلك، مصير هذه الحضارات قابل للزوال إذا لم يحافظ المجتمع على تماسكها والسعي لتطويرها بشتى الوسائل والطرق.
في المقابل، ألم يعرف دعاة الحداثة والتطوير في الوطن العربي أن لدينا حضارة عربية تمتد لأكثر من سبعة ألف سنة، وحضارة إسلامية تمتد لأكثر من 1400 سنة، ولا زالت آثار تلك الحضارتين قائماً حتى يومنا هذا؟ لا أحد يستطيع أن يُنكر حضارة بابل، ومصر، واليمن، ونجد، والحجاز، والشام، والمغرب العربي، وغيرها من بلدان العالم العربي الأخرى. لكننا للأسف، لم نحافظ على تلك الحضارات، بل إن البعض من تراثنا الحضاري قد سلبه المستعمر الغربي.
إذن، لماذا لا يتحرك دعاة الحداثة في الوطن العربي بتطوير حضارتنا وثقافتنا بدلاً من اللهث وراء ثقافة الرجل الغربي؟ ولماذا يتهمون عاداتنا وتقاليدنا العربية بالتخلف؟! هل يعرف دعاة الحداثة أن المقلد أعمى ومسلوب الإرادة والهوية؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وهو الغرض من هذا المقال، لماذا يصر أدعياء الحداثة في الوطن العربي على نقل الحداثة الغربية، أو بتعبير أدق تطبيقها في المجتمعات العربية، كي نخرج من حكم الطبقة الثيُقراطية، والتقليدية، والأسر الديكتاتورية الحاكمة، والأنظمة القمعية العسكرية؟! لم أجد إجابة دقيقة لهذا السؤال، إلا أنني أؤكد أن أطروحات هؤلاء، أي تيار الحداثة العربي مبنية على عوامل نفسية وعاطفية مُسبقة وليس على أسس سليمة، وبحثية، وعلمية دقيقة، وحوار معمق، ولذلك سقط هؤلاء ومعهم أفكارهم عند أول اختبار ديمقراطي حينما فاز الإسلاميون بعد أحداث الربيع العربي عام 2012. فقد انقلب هؤلاء على كل ما كانوا يشغلوننا به من أفكار الحداثة والتبادل السلمي للسلطة وغيرها من الشعارات الرنانة.
لكنهم انقلبوا على كل مبادئهم وتحولوا إلى أدوات بيد العسكر، ومنظرين للأنظمة القمعية بحجة محاربة المتطرفين والحركات الإرهابية! فهل يفهم تيار الحداثة أنهم مجرد أدوات بيد المستعمر وبيد الأنظمة القمعية وليسوا أهلاً لمناقشة أفكار ليست بحجمهم؟ نأمل أن يتوقفوا وأن يتركوا الشعوب العربية تقرر مصيرها وأن تقوم بتحديث وتطوير نفسها، فلدينا جيل مشبع بالقيم الإنسانية النبيلة ومتعطش لبناء حضارة إنسانية جديدة ولكنه لا زال ينتظر الفرصة المواتية حتى يحقق كل ما يصبو إليه وسيكون ذلك قريباً وقريباً جداً.
لا شك أن منطقتنا العربية تمر بمخاض عسير وظروف استثنائية معقدة. لكن، بعد الليل لا بد من فجر! سيكون المستقبل للجيل الاعتدال، وليس لأولئك المتحجرين، والتقليديين ودعاة الخرافة، ولا لأولئك الحداثيين الذين لا يفهمون من الحداثة الغربية إلا اسمها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.