لا أعلم هل توجد كلماتٌ تستطيع أن تعبر عن كل ما شعرت به أثناء قراءتي لرواياتها. لا تربطني علاقة قوية مع رضوى عاشور ورواياتها، لم أقرأ لها سوى رواية فرج، تلك الرواية التي لامستني كثيراً، قرأتها وكانت أول رواية أقرأها دون علمٍ مسبق بكاتبتها، أو معرفة اسمها من على غلاف الكتاب.
علمت من أحداث الرواية أنّ الكاتبة تحمل روح الثائرة القوية المتقنة لفن الاعتراض، فعلمت جيداً أن الكاتبة لا يمكن أن تكون غير رضوى عاشور، الكاتبة التي تمزج بين النضال والروح الحماسيّة، الثائرة مع القدرة الكتابية العظيمة، مع شخصيتها القوية، التي أكد استنتاجي ذلك عندما قرأت لها كتابها الأخير الذي اختتمت به رحلتها العظيمة والمؤثرة (أثقل من رضوى)، الذي يعتبر سيرة ذاتية لها قد سطّرتها بيديها قبل رحيلها.
فالكتاب لا ينم إلا عن قوة وتحمّل، سواء مرضها، أو عواقب عملها، وإهمال وفساد الحياة الجامعية التي كانت في رحلة متواصلة، مع الاعتراض على كل هذا الفساد، بالرغم من مرضها والسفر المتواصل لزوجها وابنها، وتحمّلها لما حدث في مصر وشبابها، وبالرغم من الجراحات المتواصلة لها، فإنها كان همّها الأول الاطمئنان على الميدان والشباب، ونزولها مصر، وأبت إلا أن تنزل لميدان التحرير؛ لتشارك مع الشباب هذا الحدث التاريخي، قوة عهدتها في تلك الكاتبة العظيمة، ولكن دائماً ما أقول إنني ما زلت لا أعرف عن "السيدة راء" إلا القليل، وإنه مع كل رواية جديدة سأقرأها لها سأكتشف فيها المزيد، فقررت أن أقرأ أهم عمل لرضوى عاشور، كما يقول الناس (ثلاثية غرناطة).
اكتشفت أنّ تلك الكاتبة لا تستحق إلا أن تكون رائدة أسلوب السهل الممتنع، أقرأ فلا أجد سوى بساطة، سواء في الحوار أو أسلوب الكتابة. نختلف نحن القراء في اتجاه ونوع قراءتنا، فهناك من يفضل الكتب الفصحى التي لا تفسدها اللهجة العامية، وينظرون إلى الكتابة باللهجة العامية بمزيد من التفاهة، وهناك من يفضل الكتابة بالعامية حتى يكون أقرب للناس، ولأن الفصحى تحمل قدراً من التعقيد الذي لا حدّ له. ولكن نقف جميعاً عند كتابات رضوى عاشور، ولا نستطيع أن نقرر، فمن بساطتها وقربها من الناس تظن أنها لهجة عامية، وإذا تعمّقت في الكلمات ستراها أنها فصحى سليمة تماماً بلا أدنى شك، ولذلك فلا يمكن أن يختلف القراء في أسلوب رضوى عاشور الذي يتميز كثيراً عن كل ما حوله.
كتاب ثلاثية غرناطة ما هو إلا رحلة عبر آلة الزمن، ستأخذ رضوى عاشور من أول صفحة بيدك للتحرك معاً عبر تلك الآلة؛ لتذهبوا إلى الأندلس، تلك الجنة الخضراء التي كنّا نمتلك زمام أمورها يوماً ما، ولم تجد رضوى سوى ذلك البيت الأصيل القابع هناك في حي البيازين، الذي تحمل أصالته عبق تاريخ الأندلس، بيت أبي جعفر الورّاق وزوجته أم جعفر وزوجة ابنهم المتوفى أم حسن، والأحفاد سليمة وحسن، ستدور الرواية لمدة قرن ونصف القرن، وسينتقل ذلك البيت من حال لحال، ستبدأه بتلك الأخبار الحزينة التي يتناولها الأهل والأصحاب في حي البيازين بأن الإسبان سيتمكنون قريباً من السيطرة على حي البيازين، وسينتقل الحال في هذا الحي من الهدوء إلى التوتر، الجميع يفكر إلى ما ستؤول إليه حال البلد.
وسيقاومون، ولكن سينالهم الاحتلال، وسيسيطر عليهم الإسبان، وسيكبر الأحفاد وسيتزوج كل منهم، سليمة ستتزوج من سعد، وحسن سيتزوج من مريمة، وستدور الأحداث، وسيزداد تعسف الإسبان وسيصدر المرسوم بأنه يجب تنصير كل سكان المدينة، وإلا ستقام عليهم العقوبة الوخيمة، وستمنع المساجد من الأذان ومن إقامة الصلوات، ومنع صدور أي كتاب يحمل اللغة العربية، وستحرق كتب القرآن، وبين قهر وحسرة أهل البيازين وأمام أعينهم سيحرق القرآن والكتب الأخرى العربية، ووسط ذلك ينظر أبو جعفر الوراق الذي تحسّر على تلك الكتب التي كان يصنعها بيده وما بيده حيلة.
ووسط تساقط دمعاته وقع ميتاً بين الناس، لم يتحمّل إعلان التنصير وفقد الهويّة واللغة والدين، فلعلّه قد تمنّى من الله أن يموت قبل أن يحضر القداس المفروض عليهم حضوره، بدلاً من صلاة الجمعة، فتحوّل هدوء وبهجة بيت أبي جعفر إلى الحزن وألم الفراق، سليمة حفيدته قد تنبّأ أبو جعفر لها بأنها ستكون ذات شأن، فلم تجد سليمة إلا أن تخبئ الكتب العربية وتحتفظ بها بعيداً عن أعين الإسبان، وبدأت رحلة العلم والاعتكاف على كل تلك الكتب، وانتقل زوجها للمقاومة مع الشباب ضد الإسبان، فأصبحت هي تداوي أهل البيازين كلهم من الأمراض، حتى وصل خبرها إلى الأعداء وهي الممتنعة عن حضور القداس.
ولكنها قد بدّلت اسمها العربي إلى اسم إفرنجي كباقي أهل البيازين، كما فرض عليهم، فكانت تهمتها أنها تداوي المرضى، واعتبر الإسبان بأن بها مسّاً من الشيطان، وانتهى بها المطاف إلى أنها أعدمت أمام حشد من الناس، وماتت سليمة بعد أن أنجبت عائشة التي تولّت تربيتها مريمة زوجة أخيها، وأحسنت تربيتها، أصبح أهل البيازين منهم من يعلم أولاده اللغة العربية في الخفاء، وأوصوهم بدينهم الإسلامي وبلغة قرآنهم، كما فعل حسن حفيد أبي جعفر الوراق مع حفيده علي، من ابنه هشام، وعائشة ابنة سليمة وسعد.
وهناك بيوت قد استسلمت، وبكل سلبية لا تذكر أبداً أمام أولادها دينهم أو تعلمهم اللغة العربية، وبالتالي بدأت تنشأ أجيال في الأندلس لا تمت للإسلام أو اللغة العربية بصلة، وفي الجانب الآخر ما زال هناك مجاهدون يسعون إلى الانتصار على الإسبان واسترداد أرضهم وهويتهم مرة أخرى، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، ومع مرور الأحداث لم يتبق من بيت أبي جعفر سوى علي بعد أن مات حسن وسعد وسليمة وأيضاً مريمة التي ماتت في طريق ترحيلهم عن أرضهم، وبيوتهم لم تتحمّل الفراق عن بيتها وأرضها التي مكثت فيها قرابة القرن، فماتت وهي تذرف دموع القهر والحزن والحسرة، ومع انتقال علي من البيازين وعين الدمع وغرناطة والجعفرية.
ستدور أحداث أهمها ضياع الهوية الإسلامية واللغة، ويستسلم الناس رويداً رويداً للواقع الذي كان السبب الأساسي فيه هو ذل العرب وضعفهم وعدم نصرتهم للأندلس، وخيانتهم لبعضهم البعض، وصراعهم على الحكم والجاه والسلطان وتركوا الأرض تضيع بكل سهولة، بالرغم من طلب أهل الأندلس المتواصل من كل العالم الإسلامي للنصرة وإرسال الجيوش العربية لاسترداد الأرض، وكالمعتاد يضع العرب أصابعهم في آذانهم حتى لا تزعجهم نداءات استغاثة أهل الأندلس.
وبراعة الكاتبة قد تجلّت وهي تقص الأحداث، وهي تصف الأماكن، لم أشعر أنها تحكي عن الأندلس بل شعرت أنها تتحدث عن مصر القديمة أو المغرب أو معالم الشام وأهلها، كانوا يشبهوننا كثيراً، قد قربّتهم كثيراً إلينا حتى نستشعر أنها يوماً كانت عربية جزءاً منّا، وحتى لا نشعر بغربة الأحداث ولكي نردد دوماً بأنها يوماً ما كانت أرضنا، وحتى لا ننسى أنها منّا ولكن تقصيرنا قد جعلنا نفرط فيها وفي أهلها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.