استيقظت قبل بضعة أيام على بريد صوتي من والدتي في مصر، تُعزّيني في فقدان السيناتور جون ماكين (ممثّل أريزونا). في وقت لاحق من نفس اليوم، تلقيت رسالتين نصيتين من الهواتف المهرّبة في السجون المصرية: أصدقائي هناك كانوا يشعرون بالحزن لفقدانه أيضاً. لم يكن هذا بمثابة صدمة. لقد لعب ماكين، بعد كل شيء، دوراً حيوياً في تأمين الإفراج عني من السجن في مصر، ومن دونه، لم أكن لأتمكّن من كتابة هذه الكلمات كرجل حر على شرفه.
قدرتي على كتابة هذا تلفت انتباهي أكثر من غيرها، باعتبار أنه كان هناك وقت انتقدته فيه بشدة.
لقد غادر السيناتور عالمنا المضطرب في وقت نحتاج فيه إلى رجل مثله. ومع استمرار تداخل الخطوط بين الحقيقة والخيال، ظل ماكين دائماً راسخاً في الواقع بموقف لا يتزعزع بشأن الحرية والأخلاق. المدافعون عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط تهزّهم خسارته. نحن نشعر بفداحة غيابه عن الكفاح ضد القمع والطغيان في هذه الحقبة عندما تكون حقوق الإنسان بعيدة جداً في قاع قائمة أولويات الإدارة الحالية.
كان باب ماكين مفتوحاً دائماً لضحايا الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية. كان موظفو مكتبه يشتكون مازحين أنهم شعروا كما لو أن مهمتهم الوحيدة هي إنقاذ السجناء في جميع أنحاء العالم. لم يكن فقط وطنياً أميركياً، بل كان أيضاً بطلاً للملايين الذين واجهوا الاضطهاد. تردد صدى صوته في بعض من أحلك الزنازين والسجون في جميع أنحاء العالم.
سمحت السلطات أحياناً لموظفي الدولة الإسلامية بالدخول إلى عنابر الحجز الانفرادي لما يقرب من عامين في مصر. تم نشر هؤلاء المتطرفين عمداً لإقناعي أنا وسجناء آخرين مؤيدين للديمقراطية بأن الإضرابات عن الطعام والمقاومة السلمية غير فعالة في مواجهة القمع. كانت حجّتهم أن الولايات المتحدة قد تخلت عن قيمها ومبادئها من خلال دعم أمثال الرئيس عبدالفتاح السيسي. كثيرون منا استجابوا لدعايتهم باستحضار اسم ماكين. أثبتت مواقفه أن الغرب ليس كله متشابهاً، وأن السياسة الأميركية ليست كتلة واحدة.
بعد أن سار الجنود في شوارع القاهرة في يوليو/تموز 2013، رد ماكين بشجاعة لم تكن موجودة لدى البيت الأبيض: استخدم كلمة "انقلاب" لوصف استيلاء السيسي على السلطة وقمعه للحكومة المنتخبة. في عام 2015، أصدر ماكين بياناً قوياً يدافع فيه عن إطلاق سراح وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان في الدول القمعية، مثل مصر، والذين كنت أنا منهم.
عندما سمعت أن ماكين كتب رسالة تطالب بالإفراج عني، كان ذلك مفاجأة لي. لطالما عارضت سياساته المتشددة في الشرق الأوسط، بما في ذلك دعمه للحرب على العراق، وكمواطن أميركي، قمت بحملة ضده بلا كلل في الانتخابات الرئاسية لعام 2008. في الواقع، ما زلت لا أوافقه في العديد من سياساته ومواقفه السابقة. ومع ذلك، كنت ممتناً لدفاعه عنّا في قاعة مجلس الشيوخ وخلف الأبواب المغلقة. وحين كنت أستلقي في زنزانتي في السجن، عدة مرات على وشك الموت وبصحة متدهورة، قدّم دعمه لي بصيص أمل لن يتمكّن سوى سجين سابق آخر من فهمه، ذلك الشعور العاجز بالسجن ظلماً وبلا أمل.
كان صوته محورياً للحصول على دعم الولايات المتحدة في تأمين إطلاق سراحي وإطلاق سراح الآلاف من سجناء الرأي حول العالم.
فقط الشخص الذي عانى من المعاناة والقمع في المقام الأول يمكن أن يستمر في محاربته بمثل هذا الشغف والتفاني. أنا، مثل كثيرين آخرين، استفدت من شجاعة ماكين وتأثرت ببطولته. سيعيش في التاريخ كرجل له عيوب، غالباً ما تخضع سياساته لتحيزاته وقيوده، ولكن أيضاً، على نحو أكثر أهمية، كرجل مبادئ، ملتزم بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، زرعت شجاعته في الساحة السياسية الخوف والتهديد في قلوب الطغاة.
كان ماكين شاهداً على حقيقة أن المرء يمكن أن يكون إنساناً وسياسياً محترماً مع الحفاظ على صدق القيم والمبادئ العالمية. اليوم، يحتفل الطغاة والديكتاتوريون، بينما نحن، ضحايا الاستبداد، نبكي ونحزن.
نعم، خسارة ماكين خسارة مدمرة بشكل استثنائي للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. خسارته تترك فراغاً هائلاً، في وقت يعاني فيه هذا المجتمع من سوء المعاملة والهزيمة، ويفقد العديد من أبطاله الأقوياء. في المقابل، ستؤدي وفاته إلى تشجيع الديماغوجيين والسلطويين والديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم لسنوات عديدة حتى بعد أن تتلاشى أخبار وفاته. لقد كان بمثابة جدار حماية ضد اضطهاد الدولة لكثير من الناس، وليس من الواضح ما إذا كان هناك أي شخص قادر على ملء مكانه.
من سجين سابق إلى آخر، أتعهّد بمشاركة روح الحرية التي حقنها ماكين في حياتي وحياة الآخرين. أتعهد بمساعدة الآخرين بروح شجاعته وتفانيه، وآمل أن يشعر بطريقة ما بتأثير الخير الذي جلبه في هذا العالم.
فليغفر له الله زلّاته، ويرحم روحه.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Washington Post.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.